د. محمد الحوراني:
أن تذهبَ إلى الصين يعني أن تذهبَ إلى عوالمَ مختلفة، وتقطعَ القفارَ والبحار، وتقضي المسافاتِ الطويلةَ، مُعلّقاً بين الأرض والسماء، فوق الغابات والجبال والماء.
كانت المسافةُ طويلةً جدّاً قبلَ وصولنا إلى مقاطعة “قوانغدونغ” في دلتا نهر اللؤلؤ في الصين، ومنها إلى مدينة “جوهاي”، أو “ريفيرا الصين”، كما يحبُّ بعضُهم أن يُسمّيَها، ولكنْ حينَ تطأُ قدماك أرضَ المدينة، وتستمتعُ بجمالها ومعالمها وطيبة أهلها، تنسى تعبَك، وتشعرُ، كأنّكَ واحدٌ من أبناء هذه المدينة، ولولا مشكلةُ اللغة لَحسبتَ نفسَكَ من أبناء المدينة.
في هذه المدينة العريقة، يجدُ المرءُ الأصالةَ والنُّبلَ والثقافةَ والتاريخَ والتَّمسُّكَ بالمبادئ والمواقف السياسية التي جعلتْ من الصين واحدةً من أعظم القُوى في العالم وأكثرها تأثيراً، وإذا كانَ زائرُ مدينةِ “جوهاي” سيُطِلُّ منها على أهمِّ المواقع السياحية في العالم مثل: “هونغ كونغ” و”ماكاو”، وسيبهرُهُ منظرُ أطول جسر مائيّ في العالم، وهو الجسرُ الذي يبلغُ طولُهُ (٥٥) كيلومتراً، ويتضمّنُ نفَقاً تحتَ الماء بين جزيرة “لانتاو” في “هونغ كونغ” ومدينة “جوهاي” وجزيرة “ماكاو” عبرَ مياه نهر اللؤلؤ، فإنَّ الزائرَ العربيَّ المعنيَّ بلُغةِ أمّتِه وثقافتها سيُبْهَرُ أكثر باهتمام الشعب الصينيّ باللغة العربية وحرصه على تعلُّمها ودراستها، وهو ما لاحَظْناهُ بوضوح في أثناء مُشاركتنا في الفعاليات التي أقامَتْها جامعةُ “صون يات سان” في مدينة “جوهاي”، وشاركَ فيها عددٌ من الباحثين وأساتذة اللغة العربيّة من الصين وعدد من دُوَل العالم.
وهُنا لا بُدّ أن أذكُرَ بفخر واعتزاز حرصَ ثُلّةٍ من الأساتذة في هذه الجامعة على تعليمِ الطَّلَبَةِ اللُّغةَ العربيَّةَ في هذه الجامعة، وعلى رأسِهم البروفيسور “سعيد ما يان جه” رئيسُ قسم اللغة العربية في الجامعة.
وليست هذه الجامعةُ وحدَها هي المُهتمّة بتعليم اللغة العربية وتعميق أواصر الصداقة التاريخية بين الثقافة العربية والثقافة الصينية، إذ إنَّ هُناكَ عشرات الجامعات التي تُدرِّسُ العربيّةَ في مختلف أرجاء الصين، وهو ما يَعرِفُهُ كُلُّ مُهتمٍّ باللغة العربية في الصين، كما أنَّ هناكَ رغبةً حقيقيّةً وكبيرةً لدى الأصدقاء في الصين في تعميق هذا وتعزيره عبرَ النهوض بواقع العلاقات الثقافية معَ الدُّوَل العربيّة عامّة، وسورية خاصّة، ولعلَّ من أهمِّ الأسماء اللامعة في سماء الثقافة الصينية حالياً والمُشتغلة على تعزيز هذه العلاقات: البروفيسور “شوي تشينغ قوه” (بسام)، والبروفيسور “لين فونغ مين” (عامر)، وكذلك البروفيسور “تشو لي”، ولهذا فإنّكَ ستجدُ كُلاً منهم قد ذهبَ في اتجاهٍ مُعيَّن في تطوير العلاقات الثقافية بين الدُّولِ العربيّة والصين، فالأولُ يبحثُ في المُشترَكات الثقافية، باحثاً عن المُبدعينَ السوريين والعرب الذين تأثَّرُوا وأثَّرُوا في ثقافةِ بلدِه، بل إنّهُ سيُفاجِئُكَ بعُمقِ ثقافته وسعة اطّلاعِه ودقّة مُلاحظته بشأن بعض الأدباء والكُتّاب الذين زارُوا الصينَ، أو عَمِلُوا فيها، وأثَّرُوا وتأثَّرُوا بثقافتها، مثل: “نزار قباني، وأدونيس، وفراس السوّاح”، أمّا الثاني فإنّهُ يُتعِبُ نفسَهُ، ويبذلُ قصارى جهده لإقامة فعاليات ومُعسكرات مُشترَكة تُعمِّقُ الروابطَ الثقافية والمعرفية بين أبناء البلدَين، مُنطلِقاً في هذا من رغبةٍ حقيقيّة في خلقِ جيلٍ جديد يعي حقيقةَ الثقافة الواعية والمُتسامحة، ويُصِرُّ الثالثُ على إلقاء كلمته في الندوة باللغة العربية، احتراماً للحُضورِ العربيّ في الندوة، وهو ما يُؤكِّدُ احترامَهُ الكبيرَ والعميقَ لأبناء أُمّتِنا، وكذلك حالُ أبناء الصين عامّة.
ولعلَّ حِرْصَ هؤلاءِ الأساتذة ودأبَهُم أسْهَما في تنشئةِ طَلَبةٍ يفتخرُونَ بتعلُّمِهم اللُّغةَ العربية، ويَحرِصُونَ على إتقانها في الصين، بل إنَّ هؤلاء الطَّلبة، من الذكور والإناث، يتفوّقُونَ على نُظَرائهم في بعضِ الدُّوَل العربية والإسلامية، وهو جهدٌ يستحقُّ التقديرَ والشُّكر، كما أنّهُ يستحقُّ دَعْمَ المُؤسَّسات الثقافية والتربويّة والتعليميّة في وطننا، فالصينُ واحدةٌ من أعرق الدُّوَل، وثقافتُها تتقاطعُ معَ ثقافتنا في كثيرٍ من الأمور والمبادئ والقِيَم والمُشترَكات الإنسانيّة النبيلة، ويُؤكِّدُ هذا وقوفُ الصين إلى جانب الحقِّ السُّوريِّ والعربيّ في المحافل الدوليّة وحرصها على تعميق العلاقات وتجاوُز الأزمات، وهو ما سارَتْ عليه السياسةُ الصينية، ولا سيّما بعدَ اعتناق سياسة الإصلاح والانفتاح.
لقد سارَ الصِّينيُّونَ في نهجهم وثقافتهم ومسيرة حياتهم على نهجِ قائدهم “سن ياتسن” المعروف بأبي الصِّين، الذي يقول: “منذُ أربعينَ سنةً وقفتُ نفسي لقضيةِ الثورة القوميّة التي تتكفّلُ للصين بمركزٍ بينَ الأُمَم على أساسِ الاستقلال والمُساواة، وقد أقْنَعَتْني جُملةُ تجاربي في هذه السنين بأنَّ بُلوغَ هذا المقصد رهنٌ بإيقاظ الجماهير من أبناء أمّتِنا والتعاون مع كُلِّ أمّةٍ من أُمَم العالم تعامُلاً قائماً على سُنّةِ المُساواة في الكفاح المُشترَك بيننا”.
ولهذا فقد حقّقَ الصينيون نجاحاً باهراً، داخلياً وخارجياً، فهل نستفيدُ من التجربة الصينية بعدَ أن نُعمِّقَ أواصرَ التواصُلِ الحضاريّ مع شُركاءِ أمّتِنا في الثقافة والقيم القائمة على التَّسامُح ورفضِ العُدوان والاعتداء على الآخَرين؟