مجتمع استهلاكي يعمل على فرض قيمه على العالم، وما يملكه من قوة اقتصادية، وتفوق علمي، وأدوات ثقافية، ما مكنه من ذلك. إنه المجتمع الأميركي الذي جعلت منه الثورات العلمية، والتقنية، وتقدم الصناعات لديه، متمحوراً حول نظام الاستهلاك المستمر، والمتزايد للسلع، والخدمات، ومتميزاً بالتركيز على الشراء، واستخدام المنتجات الجديدة، والتكنولوجيا الحديثة.. بينما الإعلانات، ووسائل الإعلام تدفع المستهلكين لشراء الأحدث فالأحدث، والشركات تسعى إلى خلق رغبات استهلاكية جديدة لتحفيز المستهلك على مزيد من الشراء. هذه الثقافة تسربت إلى مجتمعات العالم كافة لتؤثر بدورها على الحياة الاجتماعية، والاقتصادية فيها، ولتكون عنواناً للحياة المعاصرة.
ها هي المجتمعات على تنوعها، وتعدد ثقافتها تسير في ركب المجتمع الأميركي لتصبح جميعاً مجتمعات استهلاكية في المقام الأول، وهي تسعى إلى نمط من الحياة يتميز بالاعتماد على الشراء المتواصل للسلع، والخدمات، واستهلاكها، وليصبح بالتالي تقييم الأفراد مجتمعياً تبعاً لقيمة ما يمتلكونه، وبما لذلك من تأثيرات اجتماعية، واقتصادية سلبية تؤدي إلى مشكلات تبحث لها عن حلول في إيجاد أنماط جديدة للاستهلاك تكون فيها الحماية للتنمية الاقتصادية، والاجتماعية، والبيئية، ومراعاة حدودها على نحو متوازن يعدل كفّة الميزان بين الاستهلاك، والإنتاج.
إلا أنه من جانب آخر فإن للمجتمع الاستهلاكي وجه إيجابي لا يمكن تجاهله إذ أنه يشجع على التطور التكنولوجي بهدف الوصول إلى منتج أفضل، ويعزز من الابتكار لتلبية احتياجات المستهلك، ويساعد على توفير فرص أكبر للعمل باعتبار أن الإنتاج المتنامي هو مصدر رئيسي للوظائف في العديد من القطاعات، كما أنه يحقق الازدهار الاقتصادي من خلال المنافسة التي تنعكس على تحسين جودة المنتجات، وتطويرها بشكل مستمر لتلبية أفضل لاحتياجات المستهلكين، وتوفير السلع بأسعار مناسبة لأكبر عدد ممكن من الناس سعياً نحو مزيد من الرفاهية.
ومع ذلك، فإن هذه الإيجابيات لا تعفي من ضرورة إيجاد حلولٍ للآثار السلبية للمجتمع الاستهلاكي على البيئة في استنزاف مواردها، واستغلالها لصالح الصناعات، وعلى الصحة العامة من حيث ملوثات الهواء، والمياه، والتربة التي تتسبب بها الصناعات المتزايدة، والتي تزيد بدورها من خطر الإصابة بالأمراض، هذا عدا عما يسبب الأمراض النفسية نتيجة الفوارق الطبقية المرتبطة بالحالة الاقتصادية.
إنه الاستهلاك المعاصر هذا الذي يتميز بالكثرة، ويدعمه التنوع في المنتجات المطروحة في الأسواق، والخدمات المتاحة في كلّ مجال، استناداً إلى الاعتقاد السائد بأن السعادة والرفاهية تتأتى من القدرة المادية على الشراء، والحصول على المزيد من الممتلكات، والخدمات. وما يؤكد ذلك سيادة العولمة، وتطور التكنولوجيا، والتوسع في الإنتاج الصناعي، ليصبح بالتالي الاستهلاك المعاصر أكثر تعقيداً، وتنوعاً بآنٍ معاً عندما تلبي المنتجات الرغبات الشخصية كافة، وتقوم الخدمات بتلبية كافة الاحتياجات الاجتماعية.
وها هو الاستهلاك الإلكتروني أيضاً يقوم بدوره الكبير، والممتد على مساحة العالم، وكوجه حضاري، ومتطوّر للتجارة وقد أصبحت إلكترونية هي الأخرى مما يزيد من الراحة، والسرعة في الحصول على المنتجات، وبشكل فوري، وبأقل جهد ممكن، وهو الهدف الرئيسي للكثير من المستهلكين.
لابدّ إذن من الاعتراف أن الاستهلاك الجائر ـ لو جازت هذه التسمية ـ الذي فرضه إيقاع الحياة السريع، والمتسارع بين عام وآخر، والذي يسري في المجتمعات كافة قد أصبح أسلوب حياة جديد في المأكل، والملبس، والعلاقات الاجتماعية، بعد أن انطلق من قارة أميركا ليغزو باقي القارات مع كلّ ما يتبع ذلك من وسائل داعمة له تلمّع الصورة، وتجعلها أكثر قبولاً، وهو ما يقوم بها التلفزيون إلى جانب الدعاية، والإعلان، وما تقوم به منصّات التواصل الاجتماعي، وما تحرص السينما على إبرازه، والتأكيد عليه.. حتى لكأن بعض المجتمعات تكاد تفقد صورة وجهها الحقيقي وهي تتماهى مع روح الثقافة الجديدة التي تغزو.
فهل سيكون طمع الناس في الحصول على مزيد من الرفاهية سبباً لمزيد من العولمة، وتنامي ثقافة الاستهلاك بكل انعكاساتها السلبية والإيجابية؟