الثورة – أديب مخزوم:
خسارة جديدة منيت بها حركتنا الفنية التشكيلية بغياب الفنان والإعلامي والكاتب والشاعر والعازف أيمن الدقر ( نقيب الفنون الجميلة سابقاً، ورئيس تحرير مجلة أبيض وأسود، ومدير دار النشر الأولى )، الذي رحل صباح يوم الأربعاء 21 حزيران 2023 تاركاً وراءه مجموعة كبيرة من اللوحات والرسومات التي شكلت دعوة جمالية دائمة للمحافظة على معطيات تراثية في طريقها للغياب والزوال والإنقراض.
وكان قد توصل عبر رحلة طويلة مع التقنيات المختلفة إلى أن يكشف مقدرته في تنويع وتكثيف المشاهد والعناصر والرموز والإشارات القادمة من مراحل تاريخية متعاقبة تمتد إلى بدايات ظهور الحضارات السورية.
والمنطلق التحليلي لتطور تجربته، يعيدنا الى تنويعات مراحله الفنية المتواصلة، حيث نجد الحضور القوي للصياغة الهادئة والمركزة، المستمدة من انطباعات الذاكرة، ومن رؤى المخيلة التي شكلت في لوحات مرحلته الأخيرة هواجس تشكيلية جديدة (في الرؤية الحلمية – الرمزية)، والهندسية ( في تكاوين النوافذ والدوائر والخطوط المستقيمة والزوايا الحادة )، وهو في ذلك كان يبتعد كل البعد عن منزلقات الوقوع في هاوية التغريب الثقافي المقروء في معظم النتاج التشكيلي العربي المعاصر تحت شعارات استعراضية لاتمت للحضارة العربية بصلة، فهو على سبيل المثال كان ينأى ويبتعد كل البعد عن استخدام الضربات والحركات اللونية والخطية الانفعالية السريعة، مؤكداً على حضور الخط المدروس واللمسة الهادئة.
وإذا استعدنا أجواء تجربته الماضية مع تنويعات العناصر التاريخية المنقوشة على الجدران والمعابد والقصور القديمة نعرف مسبقاً أن الاهتمام بالنمنمة التفصيلية هو المدخل العقلاني الوحيد لبناء اللوحة، بخطوط صارمة وألوان متدرجة الإضاءة، على خلفية خافتة، وهو في ذلك كان يبحث عن أناقة الشكل ورمزية التكوين وشاعرية التشكيل وإيماءات الحكاية الاسطورية، فالحنين إلى حكايات التاريخ كان يشكل جزءاً أساسياً في لوحاته القديمة والجديدة، وهو في كل مرة كان يعمل على تأويل رموزه للوصول إلى التشكيل البانورامي الحكائي القادم من معطيات الأزمنة الغابرة في فجر التاريخ ( تجسيد حركات خيالية لأشخاص وحيوانات متقابلة أو متتابعة، أو لأسدين متعارضين )، وكان يركز أحياناً لإبراز إطلالة خوذة أو تاج الرأس و إيقاعات الصدر والأنف، ضمن تأليف يجمع مابين حركة الزوايا والأقواس والخطوط المستقيمة، وكل ذلك يعيدنا الى أجواء الفنون السورية القديمة، وخاصة الآشورية.
ولقد ركز في لوحاته القديمة لإظهار تلميحات الإيقاعات اللونية الساطعة على الأواني المستمدة من ألوان الفنون الشرقية المنسية، والتي تؤكد ملازمته الدائمة للأشكال المنحوتة أو المنقوشة، التي درس حركاتها وتفاصيلها ودلالاتها، خلال زياراته المتكررة للمتاحف، وأخذ ينعطف عاماُ بعد آخر لاستخدام الإضاءات القوية المحددة في أحيان كثيرة بخطوط صارمة تظهر العناصر الزخرفية وسواها.
وفي بعض لوحات مرحلته الأخيرة، والتي أنجزها بلونين أساسيين هما الأسود والأبيض، وبرؤوس أقلام رفيعة، وتفاعل فيها مع قصيدة الشاعر الكبير الراحل نزار قباني التي يقول فيها: هذي دمشق وهذي الكأس والراح… إني أحبك وبعض الحب ذباح… أكد فيها رغبته الدائمة في اختبار المواد والتقنيات، بدلاً من متابعة تقنياته التلوينية السابقة.
ففي بعض لوحاته الأخيرة، جاهر بعشقه المتجدد لمرتع طفولته وحداثته، من خلال التركيز على رموز المدينة القديمة التي شكلت محور قصيدة نزار قباني، حيث تظهر المرأة، ورموز أشكال العمارة الدمشقية بنوافذها وأقواسها وشرفاتها وأشجارها وياسمينها وبحراتها ونوافيرها كرحلة حلم في فضاء اللوحة.
رموز محلية كثيرة كان يعزف على أوتارها، وتمتد الزخرفة الشرقية لتشمل النسيج السوري، الذي عرف شهرة عالمية واسعة، مع تأكيده على إضفاء المجسمات والدائرة، التي تأخذ شكل الشمس المشعة باللون الذهبي، الذي تكرس على مر العصور، كلون مقدس يرمز الى الزهد والنقاء والصفاء والجو الروحاني.
هكذا كانت تحولات تجارب أيمن الدقر تغوص في هواجسه الثقافية المنفتحة على التاريخ الحضاري، الذي اكتسبته الأرض السورية خلال آلاف السنين، وصولاً إلى خطواته الجديدة التي أراد من خلالها توجيه دعوة جمالية للإيحاء بإمكانية تمتين علاقة لوحاته بمدينة دمشق، التي أحبها وتفاعل مع هواجسها وأحلامها الفنية، وعمقت حنينه الدائم الى ذكريات طفولته والوصول الى اللوحة – القصيدة، والبحث اليومي المطلق عن خصوصيات التراث الحضاري، الذي يربط الماضي بالإيقاعات الفنية الحديثة.