الثورة – رنا بدري سلوم
“لا يوجد إعلام دون ثقافة” من هنا جاءت مواءمة الإعلام بالثقافة في ردعهما الاستلاب الذي يطاردنا والناتج عن الأيديولوجيا التي حلت محل الثقافة ومحل التفكير وأصبح الكل مداناً وبغض النظرعن وضع المثقفين محط الاتهام وهذا ليس تعميماً، فإن ما كان استلاباً ايديولوجياً في القرن العشرين لم يعد كذلك مع ثورة الانترنت، والتطورات الهائلة التي تتفتق كل يوم عن أسلوب جديد، حوربت الايديولوجيا ووقعت تحولات عالمية كبرى، وصار التشظي هوية، فالإنسان اللامنتمي هو المطلوب ووسائل اللعب بالوعي غدت في أعلى مراحل تطورها، تضافر فيها علم النفس والثقافة والإعلام والتشريح والطب وكل ما يمكن أن يقود إلى الغاية، بغض النظر عن مشروعيته، بل متى كان الاستلاب يفكر بمشروعيته؟ يقول “لينين” إن المثقفين هم الأكثر قدرة على الخيانة لأنهم قادرون على تبريرها، فهم يعتبرون المجتمع ملكية خاصة، وإن خيانة المثقفين هي التي تحول بين المجتمع وبين الوعي الحقيقي الذي يهيئ لتفسير المعاناة وفهمها.
ويمكننا القول إن السيطرة على المستقبل هي رهن بمن يربح معركة الثقافة والإعلام ففي الحروب المجنونة التي على ما يبدو قد استخدمت كل ما يمكن أن تستخدمه من تقنيات واختراعات، لتصبها في غسل العقول والأخذ بها إلى أماكن أخرى غير التي كان يجب أن تكون عليها.وبتعريفنا لمصطلح مثقف ظهر حين قالت العرب في الشعر: إن أعذب الشعر أكذبه، بمعنى أنه الأجمل حين يكون موغلاً في الخيال وقادراً على أن يكون بعيداً عن الواقع، لم يقولوا أعذب الشعر أكثره خيالاً وجموحاً، نعم بعد ذلك بقرون ظهر مصطلح المثقف وأخذ شأنه ومداه، ولكن لماذا كلما دق الكوز بالجرة على حد قول الناقد مارون عبود نعود إلى المثقف وننبش في كهوفه ونحاول إثارة الزوابع حوله، أهو كل صاحب كل جريرة وكل موبقات العالم؟ ألهذا وضع سارتر كتابه الذائع الصيت عنه، دفاعاً عن المثقف.
الأدب وبناء الوعي
من البداهة القول لم يفقد الأدب دوره هذا إلا في العالم الثالث مسلوب الإرادة والوعي والغائص حتى الغرق في الميديا المستهلك لكل ما يصدر إليه من الغرب فكراً ومعرفة، سلعاً من غير وعي ولا قدرة على التمييز وهذا ما يدفعنا للحديث عن الاستهلاك الطاحن والقاتل لأدوات التواصل الاجتماعي التي نغرق في أتونها ومن ثم تعمل على استهلاكنا، ومن باب الإشارة إلى الدور الرائد للأدب في صناعة الوعي. وعن هذا نذكر تساؤل “الردع الثقافي متى؟ ” عنوان مقال كتبه الشاعر نزار قباني عام 1978 جاء في كتابه ” شيء من النثر” يتحدث في بداياته عما كان يجري على الساحة الثقافية في بيروت، كانت المختبر الأول للحراك الثقافي العربي يقول قباني” فالذي يطالع ما ينشر على صفحات الثقافة في الصحف والمجلات الأسبوعية يكتشف أن كل عقد الحرب الأهلية بدأت تطفو ولا تتعرض للشمس والهواء ولا تغتسل بالماء ومثلما تطلع رائحة الجسد وتنمو طبقة سميكة من العفن عندما لا يرى الشمس كذلك الفكر، فهو معرض أكثر من أي مادة أخرى للعفونة والتفسخ..” وقال: “الذين يكتبون لم ينجوا أيضاً من هذه الوافدة الخطيرة فقد ظهرت على شفاههم وعلى ألسنتهم أعراض التسمم وظهر اليرقان الأدبي واضحاً في أوراقهم وأفكارهم ومقالاتهم، أكثر ناقدي الأدب في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية مصابون باليرقان وحين يكون المرء في مثل هذه الحالة الزعفرانية الشاحبة يصبح اقترابه من أية ورقة مكتوبة أو أي عمل أدبي خطيراً شديداً على هذا العمل.
المصاب باليرقان الأدبي، لا يرى في الوجود شيئاً جميلاً لأن الجميل يعذبه والمتناسق والكامل والمعافى يؤذيه وقصائد الحب تعقده هؤلاء مشوهو النقد الذين نطالب بتشكيل قوات ردع ثقافية لرد أذاهم عن الناس وحماية الذوق العام من شرورهم، وعدوانهم اليومي على كل ما هو نبيل وأصيل في حياتنا، هؤلاء المولودون في أقبية الكراهية والعدوانيون على كل شيء، والحاقدون بالوراثة على أي زهرة أو فراشة أو كتاب، صار لابد من ردعهم بطريقة أو بأخرى ومصادرة جميع الأسلحة غير المرخصة التي يستعملونها لاغتيال حياتنا الأدبية”.