الملحق الثقافي- أيمن المراد:
لكل ثقافة مسارها، ولا يوجد مسار واحد لجميع الثقافات، فالثقافة تعبير عن مرحلة تاريخية بعينها، وتتشكل في إطار الوعي التاريخي لأمة ومن خلاله، فإذا ما سيطرت ثقافة وشاعت، وتحولت إلى ثقافة مركزية، أصبحت باقي الثقافات في الأطراف. وأصبح مسار الثقافة المركزية هو العصر والتاريخ، وباقي المسارات يعادل الثقافة العالمية، وغيرها ثقافات محلية.. حدث ذلك في الحضارة المصرية القديمة، وحضارة الشرق القديم، حيث تحولت هذه الحضارات إلى حضارة مركزية، وغيرها من الثقافات إلى ثقافة أطراف.
ما ان انتهت الحرب العالمية الثانية في آب أغسطس ١٩٤٥ ووضعت الحرب أوزارها، وانقسم المتحاربون إلى فريقين، منتصر بقيادة الولايات المتحدة على الجيش الإمبراطوري الياباني بتدمير طوكيو ثم إلقاء القنابل الذرية على هيروشيما ونجازاكي .. قبل ذلك بقليل انهزمت ألمانيا وإيطاليا، سريعاً ما شكل الحلفاء مراكز عسكرية وسياسية لقيادة عمليات ما بعد انتهاء الحرب في الدول المنهزمة.
فتشكلت مراكز قيادة للحلفاء فى كل من النمسا وألمانيا واليابان.. كانت أبرز ملامح مرحلة ما بعد انتهاء الحرب هو ذلك الدمار الشامل في البنية التحتية، وكذلك الخسائر الفادحة في الأرواح، فتقدر الإحصاءات أن بين ٦٠ و٧٠ مليون شخص لقوا حتفهم أثناء الحرب منهم ما يقرب من ٥٠ مليون مدني والباقي من العسكريين!.
ونتيجة أولى لهذه الحرب كان لا بد من إعادة رسم خريطة سياسية بعبارة أخرى، فقد كانت النتائج المباشرة لانتهاء الحرب العالمية الثانية هي تشكيل تنظيم دولي جديد يطمح إلى تطبيق قواعد القانون الدولي على كل دول العالم الذي انقسم بدوره إلى كتلتين رئيسيتين، الكتلة الغربية بزعامة الولايات المتحدة، وعبر عنها حلف الناتو العسكري (١٩٤٩ – حتى الآن) والكتلة الشرقية بزعامة الاتحاد السوفييتي والتي بدورها قامت بتشكيل حلف وارسو (١٩٥٥ ــ 1991) بتفككه.
الأمر الذي نتج عنه تقسيم العالم إلى دول تسعى إلى فرض معادلتها واستثمار نتائج الحرب، وهي الدول المعروفة بالمجتمع الغربي، فالنتيجة المعقولة لهذا النظام الجديد أن يتجه لاقتصاد يواكب عالم ما بعد الحرب، وهنا بدأ الصراع بين الدول محاولة الاستحواذ على كل شيء اقتصادياً وثقافياً وفكرياً(لامتلاكها كبرى الجامعات والمعاهد الفكرية ودور النشر ووسائل النقل الحديثة، ولاحقاً معظم وسائل الإعلام المرئي المقروء والمكتوب والمسموع) واجتماعياً.
لقد لعب حكم القوة دوراً مهماً في تنمية النظم الفكرية الثقافية، فتماشى الاقتصاد إلى جانب السياسة والفكر والتعليم بخطى متوازنة ومتوازية.
ولم يعتمد الغرب فقط على بسط هيمنته ونمط إنتاجه وإملاء شروطه؛ بوصفها حقيقة وحيدة لازدهار الحضارة، مع سياسة النهب الخالص، إنما اعتمد أيضًا على أساليب أخرى في مرحلة ما قبل الاستعمار المباشر، وذلك عن طريق الاتفاقيات التجارية والعسكرية والعلمية مع حكام دول الأطراف، وتكوين أنصار وزبائن مفتونين بمبادئه وقيمه ومؤسساته في المجتمعات المحلية، والتسلل إلى الضمائر، وتطويعها وتسخيرها لمصلحته.
ويمكن القول إن صور الغرب في الدول الهزيلة (المقصود بهذا المصطلح الدول التي لم تستطع مواكبة الغرب الاستعماري على سكة نهضته) فبقيت نظرتها لهذا الغرب تتراوح بين الافتتان والكراهية، وفقاً لطبيعة العلاقة الرسمية مع الدولة القوية، وتتقلب الصورة من زمن لآخر، وفقاً للتطورات السياسية والثقافية للنخب الحاكمة من الليبرالية والماركسية والإسلامية والعلمانية وغيرها!.
تتجدد السجالات في أوروبا والولايات المتحدة حول سيناريوهات نهاية نفوذ الغرب التي تغذيها منذ سنوات إصدارات ومقالات لمفكرين وخبراء الاستراتيجيات، والتي تحمل عناوين مثل كتاب «موت الغرب» الذي صدر منذ سنوات للأميركي باتريك جيه بوكانان الخبير ومستشار رؤساء أميركيين، في ذروة الجدل حول الهجرة وأزمة النمو الديمغرافي بأوروبا.. وهناك مقالة «وداعًا للغرب» لوزير الخارجية الألماني الأسبق يوشكا فيشر التي قدم من خلالها رؤية متشائمة لمستقبل الغرب إثر صعود الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب سنة 2016، وأعقبتها مقولة «الموت السريري لحلف الناتو» التي أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، هذا سياسياً الأمر الذي ينعكس بشكل تلقائي على غيره من مناحي الحياة.
المتأمل في الأمر يرى أن حالة الضعف والتشرذم التي يعيشها العالم في جزء كبير منها يعود إلى الغزو الثقافي والفكري الغربي الهائل الذي سيطر على العقول.
الغزو الغربي أخطر ما نواجه في حياتنا، لما يقوم به من تقويض يتعلق بأعماقنا عقائديًا وفكريًا وحضاريًا، وليس أمام الدول الأقل حظًا إلا المواجهة، وقبول التحدي، وإثبات الذات، وإلا فلن تقوم لنا حياة، ولن نكون جديرين بها.
الغزو الفكري هو السلاح الذي لا يخيب في إذابة الشعوب وانسلاخها عن عقائدها وحضارتها لتصبح تابعًا للغير، يؤمر فيطيع، لذلك حرصت الدول الغربية على تحسين صورتها بصناعة نخب مرتبطة بها، وقد أدت هذه النخب الدور الموكل إليها بحرفية.
لقد قام هذا الغزو بدوره المؤثر في تضليل المجتمعات الإنسانية وخداعها، والتمويه عليها، وقلب الحقائق وتشويهها، وذلك عن طريق تصنيع الكلمة، وزخرفة القول، والدخول إلى المخاطب من نقطة الضعف لإغرائه، والإيقاع به، إلا أن بعض التيارات الفكرية المنتشرة ترى أن الغرب ليس كله شراً، وعلى الآخرين الاستفادة من تجاربه التي قادته إلى التقدم، والاستفادة ما أمكن مما حققه من إنجازات، وترشيدها وفقًا للقيم والأسس التي تقوم عليها المجتمعات، وهذه الرؤية مماثلة لما قام به الغرب نفسه عندما كان يعاني التخلف في عصور ازدهار الحضارات الشرقية.
وقد ظهر تيار حرص على إظهار الافتتان بالغرب والدعوة إلى السير في ركابه! ويرى أنصار هذا التيار أن أخطاء الغرب هي أخطاء أهل الحضارة المتفوقة، وهي أخطاء أقل بكثير من حسناته لذلك يدعون إلى الاقتداء بالغرب لأنه سبيل النجاة لأي دولة نامية تريد أن تتقدم!.
وهذا التيار يتصدر المشهد اليوم، وخاصة مع القفزة النوعية والهائلة للإعلام ووسائل الاتصال التي تقدم بأغلب الأحيان صورة مثالية للحياة الغربية، فهل نجحوا في ذلك؟.
المتابع المتأثر بصورة الأحداث التي تمر أمامه عبر وسائل الإعلام المختلفة(ذلك الإعلام سيف بحدين) تحولت مع الكثير من صور الانتهاكات(سجن أبو غريب، أفغانستان وغيرها الكثير) إلى كراهية غير مسبوقة للحضارة الغربية، وأصبح قطاع لا بأس به من الرأي العام الشعبي مجمعًا على موقف معاد للحضارة الغربية، الأمر الذي انعكس سلبًا على الصورة النمطية المتشكلة في ذهن شعوب العالم، ومع تواتر الأحداث تراجعت المكانة الثقافية والفكرية والأخلاقية، وبدأت تظهر تيارات فكرية وخاصة في آسيا لخلق تيار فكري يوازي التيار الفكري الغربي الهدف منه خلق قاعدة شعبية تؤمن بوجود نمط آخر يستطيع السير بركبه، والابتعاد ما أمكن عن الثقافة الغربية وفكرها الشاذ والمتطرف في كثير من الأحيان.
فهل انحسر الدور والسيطرة الفكرية والثقافية للغرب، يمكن إلى حد ما، ولكن الطريق مازال طويلاً ويحتاج إلى المزيد من المقاومة للوصول إلى معادلة شبه متوازنة بين المتجاورين على هذا الكوكب!.
العدد 1149 – 27-6-2023