لا ترى البذور إلا عندما تمرّ قربها، تقرر في سرها، غداً صباحاً سوف أغرسها في التربة وأبدأ برعايتها، لا تنتبه كم مضى من الوقت حين تمرّ بقربها مجدداً وتقرر زراعتها، ربما مضت أشهر عدة، وهي لا تفعل سوى المزيد من الإصرار على إنجاز الأمر..
اليوم حين حزمت حقائبها كي تغادر إلى منزل آخر ترددت هل تحمّلها علها تزرعها في مكان آخر…؟
حين وضعتها في كيس وحملتها لم تكن موقنة هذه المرة من شيء، إذ إن مشاعرها متهالكة بالكاد قادرة على التنفس، حين سمعت صوت سيارة الأجرة، جرّت حقيبتها متثاقلة ودون أن تلقي نظرة وداع، هربت ولم تستفق من ذهولها إلا حين خبط الهواء باب الحديد، كأنه يوصد في وجهها معلناً، أنها لن تعود هذه المرة أبداً.
أول ما فعلته حين دخلت غرفتها الصغيرة في سكنها الجديد، أنها انتبهت أنها بعد اليوم لا تمتلك حديقة، مجرد شرفة صغيرة، وضعت البذور في أصيص ترابي على ما يبدو أن ساكني الغرفة السابقين احتفظوا به طويلاً لأمر ما دون أن يتمكنوا يوماً من إنبات أي شيء فيه.
شعرت بالراحة وهي تمسك بحقيبتها الصغيرة، وترمي بها أسفل خزانة حائط صغيرة بالكاد تتسع لبضعة أغراض، لطالما حلمت بالتخفيف من كلّ تلك الأشياء التي علقت بها يوماً، وها هي هذه المرة نجت، ومع تخففها من الأحمال تمنّت لو أن بإمكانها حذف كلّ الذكريات.
رغم أن هناك الكثير من ذكرياتها تمسّكت بها يوماً، ولكنّها اليوم تشبه ألواناً ثقيلة خالية من أي عمق في لوحة فنية اختارت أن تختط لذاتها طريقاً جديداً، يحتاج لألوان جذابة، لن تكون إلا إن تخلت عن ازدحام بعضها.
وهي غارقة في أفكارها، لا تدري كم مضى من الوقت على المرة الأخيرة التي سقت فيها بذورها المنقولة، وحين نبشت في التربة اكتشفت أن الأوان قد فات، وأنها حين بدّلت المكان لم تكن المشكلة إلا في ذاتها المعطوبة بذكريات أو من دونها، لأنها ترسخت عميقاً في كينونتها وأصبحت جزءاً منها، شعرت أنها حزينة جداً لأنها لن تستيقظ في صباح الغد لترى اخضرار البذور ملأ الشرفة، ولن يفعل يوماً…!