د. جوليان بدور- باريس:
لست روائيًا أو كاتبًا أو شاعرًا بل إنني باحث أكاديمي أفقرت الغربة الطويلة مخزونه من الكلمات العربية وإلمامه بقواعد النحو والكتابة، حيث أمضي الكثير من الوقت في البحث عن الكلمات البسيطة واللطيفة كحياتنا القروية، والمعبرة والثرية كأعمال أهلنا الفلاحين، والطيبة والنبيلة كقلوب آبائنا القرويين، من أجل توثيق وكتابة ذكرياتي القروية البريئة والسعيدة.
فقد شاءت الأقدار أنني ولدت في عائلة ريفية تعمل بالزراعة وتسكن في قرية جبلية نائية ساحرة الجمال والمناخ، جمال طبيعة القرية وصفاء مناخها وروعة هدوئها لم يكن أكثر وهجاً وبهاء وسحرا من صفاء قلوب أهلي، تزوج والداي في عام ١٩٤٨ وأنجبا 11 طفلاً دون إعارة أي اهتمام لضخامة المسؤولية التي كانت تنتظرهما مع قلة الإمكانات المادية المتاحة لهما، ورغم ذلك حصل الجميع على شهادات علمية عليا.
كما هو متوقع مسيرة حياتهم العائلية لم تكن نهرا هادئا. منذ البداية المشاكل والصعوبات التي كان عليهم التغلب عليها عديدة ومتنوعة من بينها، أولاً مواجهة الصعاب الناجمة عن عزلة القرية وانزوائها وغياب الخدمات الأساسية فيها من طرق ومياه وكهرباء، وثانيًا تحمل عناء المشقات الناتجة عن طبيعة الأراضي الجبلية المنحدرة والمليئة بالحرش والأعشاب والأحجار، وثالثًاً وأخيراً القبول بزراعة محاصيل تتطلب مجهودا جسميا كبيرا وذات مردود محدود كالدخان والحبوب.
زراعة الحنطة والشعير..
يجب التنويه إلى إنه قبل البدء بزراعة الحنطة، كان على الفلاحين القيام خلال شهر تشرين الأول بتهيئة الحقول من خلال القيام بما يسمى بفلاحة العيار وقطع الحرش وفروع الديس المتشعبة والأعشاب الضارة وحرقها، وبعد الانتهاء من تهيئة الأراضي تبدأ زراعة الحبوب في تشرين الثاني، والمهمة لم تكن سهلة وتتطلب تقسيم العمل بين أفراد الأسرة، فبينما كان والدي يستيقظ باكرًا لإطعام الثورين والدابة واقتيادهم إلى الحقل، كانت والدتي تقوم بحلب البقرات وإعداد الفطور وإيقاظ الأطفال الصغار واصطحابهم إلى المدرسة، ثم تحمل الفطور وإبريق الشاي إلى والدي وأخواتي الكبار بالحق، ثم ينهض الجميع للعمل حيث كان والدي يبدأ بنثر البذور وحراثة الأرض بالمحراث اليدوي (أي الصمد المصنوع من الخشب المربوط بالنيرْ المُثبت على أكتاف الثورين)، وكانت والدتي وأخواتي الكبار يركشنّ وراءه أجزاء الأرض التي لم يطالها المحراث ويقتلعون الأعشاب الضارة، هكذا يستمر العمل دون توقف حتى الظهيرة، لكن قبل حلول الظهيرة كانت والدتي تعود إلى البيت للقيام بمهمتين أساسيتين: الأولى هي القيام بعجن الطحين، وتركه يتخمر حتى يكون جاهزاً للخبز عند عودتهم في المساء، والثانية تحضير الغداء، وأغلب الأحيان كان الغداء مجدرة عدس أو برغل مع لبن ومن ثم جلبها لوالدي وأخوتي في الحقل.
الطريق من البيت إلى الحقل كانت طويلة ووعرة ويتخللها طلعات ونزلات حادة ومتعبة بسبب وجود القسم الأكبر من أراضينا على تلال وهضاب مرتفعة وبعيدة عن البيت، بعد الغداء التي كانت تتم أغلب الأحيان في ظل شجر السنديان أو الغار، كان والدي، المستيقظ باكرًا، يمنح لنفسه قسطًا قصيرًا من الراحة، لكن الوقت كان من ذهب لأنه كان عليه زراعة أكثر من أربعين دونماً، فما هي الطريقة المتبعة لكي لا يطول وقت الاستراحة كثيرًا؟ القصة حقيقة ومثيرة للإعجاب.
فقبل أن يتكئ على كتفه كان والدي، المدخن العتيد، يلف سيكارة دخان عربي ويشعلها ويضعها بين أصبعه، بعد دقائق قليلة، تصل نار السيكارة إلى أصبعه فيفيق وينهض إلى حراثة الأرض.. العمل كان يستمر وبدون هوادة حتى المساء، لكن قبل غروب الشمس، كانت والدتي وأحدى أخواتي يعدن إلى البيت من أجل إعداد الطعام والقيام بالخبز على التنور.
مُرْهقين وجائعين، عند عودتنا للبيت مساء، وقبل أن نُغيّر ثياب العمل، كنا نهرع مسرعين إلى التنور ونأخذ كماْجة أو رغيفا ساخنا ومقرمشا من الخبز الأسمر ذو الطعم اللذيذ والمفيد للصحة (الخبز الأبيض لم يكن دارجاً بعد) ونلف سندويشة من زيت الزيتون والملح والبصل الأخضر.. صدقوني طعم ولذة لا يوصفان في الحقيقة، وبعد تناول العشاء كان والداي وإخوتي الكبار يخلدون إلى النوم مبكرًا بسبب التعب والإرهاق، بينما نحن أطفال المدرسة كُنّا نقوم بعمل وظائفنا على ضوء القنديل والسراج.
موسم الحصاد..
موسم الحصاد كان يبدأ في شهر حزيران، شهر الحر وطول النهار، لكن في زمن لا يوجد فيه لا كهرباء ولا ساعة ولا موبايل، كان صياح الديك هو المنبه الوحيد الذي يوقظ الفلاحين، بعد الاستيقاظ كان والدي أو والدتي يخرجان من البيت وينظران إلى نجمة الصباح فإذا كانت النجمة قد أشرقت للتو من وراء الجبل، أي أنها كانت قريبة من قمة الجبل، هذا يعني بأن الوقت ما زال مبكرًا، أما إذا كانت النجمة مرتفعة عن قمة الجبل هذا يعني بأن طلوع الفجر قد اقترب وقد حان موعد الاستيقاظ.
بعد لف وتدخين سيكارة من الدخان العربي (البصمة) وشرب فنجان من الشاي كان والدي يذهب إلى الحقل باكرًا مع منجل الحصاد وكوز من الماء، من ناحيتها كانت والدتي، بعد حلب البقرات وإيقاظ الأطفال، تلحق بأهلي بالحقل حاملة معها الفطور وإبريق الشاي.
يجب معرفة إن حصاد الزرع هو من أقسى الأعمال وأصعبها ليس فقط لأنه كان يتم في وضح النهار وعز الحر وبدون ألبسة خاصة أو كفوف واقية، بل لكونه يتطلب من الحاصود أن يحني ظهره طوال وقت العمل ويمسك المنجل باليد اليمنى وشميل من الزرع باليد اليسرى ومن ثم يتم قطع الزرع بالمنجل بالقرب من جذوره (ما يعني زيادة انحناء الظهر) لا من وسطه لأننا كنا بحاجة إلى أكبر كمية من التبن لإطعام الماشية.
بسبب قساوة الحصاد كنا نشاهد أغلب الفلاحين يطلبون المساعدة من الأبناء والأخوة والأقارب في حصاد الزرع والشعير، لكن كون أبي يتيما ووحيد أهله، وأخواتي الكبار كلهم بنات وأنا صغير السن، كان أبي يقوم بحصاد كامل الموسم الذي يٌقدر ما بين ١٠ و ١٢ طنا من القمح والشعير.. منظر حِصاد والدي لهذا الكم الهائل من القمح والشعير وبمفرده كان يؤلمني حقًا ويثير بنفسي الكثير من الشفقة والحنية عليه.
لكن قساوة العمل لم يكن يقتصر على والدي، والدتي المرحومة لم تكن بأفضل حال لأنها مثل والدي كانت تستيقظ باكرًا لإنجاز كل أعمال المنزل، بينما يقوم والدي وإخوتي بقوقلة الزرع وهو كالحصاد عمل مضني وشاق لأنه كان يتطلب انحناء الظهر أيضًا طوال الوقت وجمع شميلات الحنطة المنتشرة على الأرض وربطها في وضح النهار وتحت الشمس الحارقة ودون استخدام أي ألبسة خاصة أو كفوف تقي الجسم من الحر الشديد والأيادي من وخز الشوق.
بعدها كنا نجمع “القوقلات” في وسط الأرض ونحضر الداَبة المجهزة “بسريجة ” ونُحْمّلها ما بين ٥ إلى سبعة قوقلات حسب وعورة الطريق، ومن ثم ننقلها إلى البيدر الموجود بقرب القرية، بعد إغلاق المدارس ، وبالرغم من سني الذي لم يتجاوز عشر سنوات كنت أقوم باقتياد الدابة المحملة من الحقل إلى البيدر، على طريق طويل ووعر ومليء بالطلعات والنزلات والمطبات، والمسافة ذهابا وإيابا كانت تأخذ مني حوالي الساعة، والعمل كان يستمر من طلوع الشمس حتى غروبها.
طفولة سعيدة ومتعبة..
على عكس الكثير من آراء الكتاب أو الشعراء الذين يكتبون عن الحياة القروية بأسلوب آخر مركزين على الفقر وحرمان الأطفال من وسائل التسلية واللهو واللعب أقول بالرغم من أننا كُنا نساعد أهلنا بالعمل وجني المحاصيل إلا إن طفولتنا لم تكن تعيسة وشقية كما يظن البعض بل كانت حقيقة فرحة ومليئة بالحب والود والسعادة لأننا كُنا نشارك أهلنا أعمالهم وحياتهم اليومية طوعيًا وبمحض إرادتنا ولأن عملنا كان يتم خارج البيت في وسط طبيعة وبيئة ساحرة الجمال وهواء يشفي العليل وطعام بيئي صحي ولذيذ، ولأننا كُنا مُغرمين بمنظر سنابل حقولنا من القمح التي كانت تفوح حباً وعطاءً وتتمايل مع نسمات الهواء المنعش يمينًا وشمالًا وكأنها ترقص فرحًا وزهوًا ومحبةً، ولأننا كٌنا مبهورين بمشاهدة عصافير “الدنيرورة والقتالة والقنبر” وطيور الحجل، التي كانت تقصدنا وترفرف فوقنا ومن حولنا وهي تغني وتزغرد فرحاً لأنها كانت تجد ما يكفيها من الطعام لها ولأطفالها، ولأننا كنا نراقب بإعجاب استنفار مملكة النمل لجميع أفرادها والعمل الشاق ليلًا نهارًا لنقل ما يمكن من الحبوب ومن مسافات طويلة لتأمين مونة الشتاء.
ولأننا كُنا نقضي كل أوقاتنا خارج البيت في الحقول أو على الطرقات الترابية أو في ظل أشجار الغار والسنديان حيث كنا نقتات الطعام ونشرب الشاي المعطرة بطعم الزوفا أو البنفسج المجفف، ولأنه لم يكن هناك سيارات أو شاحنات أو تراكتورات تعكر هدوءنا وتلوث هواءنا، ولأننا لم نكن نعاني من انقطاع الكهرباء أو المياه ولا من مشكلة شحن الموبايلات وقضاء الكثير من الوقت على مشاهدة الصور والفيديوهات الملوثة لأفكارنا ومخيلتنا المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي، ولأننا كٌنا مع أمهات وآباء نذروا وكرسوا حياتهم وكامل طاقاتهم وأوقاتهم على تربية وتعليم وإسعاد أبنائهم وتخلوا عن كل ما يسمى حُب الذات والاستئثار والأنانية والشهوات والمصلحة الفردية، ولأننا كُنا نجني في فصل الصيف الحبوب والمأكولات التي تقينّا ، نحن وحيواناتنا الأليفة، من شر الجوع والفقر في الشتاء الطويل والقارس.
نعم كُنا نعمل مع آبائنا بالأرض، ملابسنا ممزقة ويغطيها الغبار، أكلنا بسيط وبيئي، شعرَنا طويل ومْجعدْ وخدود محمرة من الجري وراء البقرات، لكن الفرح والبهجة والسعادة كانت تغمر قلوبنا وحياتنا لأننا كُنا نقضي أوقاتنا بالعمل ورعي بقارتُنا في مروج تفوح بالحب والعطاء، ونلعب ونلهو مع عصافير وفراشات زاهية اللون كانت تقصدنا من بعيد لتتقاسم معنا موسم الفرح والخير، ونلعب بالغبار في ظل أشجار كانت أغصانها تتمايل وترقص مع نسمات الصيف العليلة.
هكذا كانت طفولتنا وهكذا كانت حياتنا القروية القائمة على المشاركة والتعاون وحب البيئة والطبيعة والإنسان، وهكذا كانت شقاوتنا وسعادتنا ونمط حياتنا الغني والثري والبسيط.. فهل هناك أجمل في هذا الكون من هذه الطفولة والعالم الساحر في سورية الجمال والخير، دنيا يصفها الأخوان الرحباني بشكل دقيق في أغنية السيدة فيروز “بتشوف بكرى بتشوف”:
بتشوف بُكرا بتشوف شو دارنا حلوة
عَ مْطلّ أخضر مكشوف….والشمس بتضْوِي
فراشات بتْجِينا رفوف…وطيور تقصدنا ضيوف
وغصون ترُقص وتغَنّي… بتشوف بكرا بتشوف
وهاكْ الدنِي الغَضّة ….بتضلْ حليانِة
فيها الهوى بيمضى ٠٠٠٠أحلام وغْناني
والحبّ فوق دْواليها
عناقيد حليانِة فيها
ومافيش واحد مقطوف
بتشوف بُكرا بتشوف
* باحث وأكاديمي فرنسي من أصل سوري – جامعة ريونيون*