أستذكر أول أيامي في جامعة دمشق نهاية العقد الثامن من القرن الماضي، إذ كان التسجيل مباشراً لا يحتاج مفاضلة ولم يكن في سورية آنذاك إلا جامعتا دمشق وحلب بكلياتهما ومعاهدهما المتماثلة أو المتفردة في إحداهما ، هذا الاستذكار سببه هذه الاحتفالية بمناسبة مرور مئة عام على إحداث جامعة دمشق وأنا ابن أرجائها ومخابرها وقاعات صفوفها ومدرجاتها القديمة وعاشق كلّ قطعة من أرضها ، أراني أعود طالباً أجوب كلياتها مستكشفاً بعضاً من خبايا كلّ قسم فيها ، منتمياً إلى كلية العلوم فيها وزائراً لكليات الهندسة والآداب والحقوق باحثاً عن المقررات الدراسية المشتركة والمتقاربة علّها تفيدني في شيء منها.
الخطوات الأولى وقتذاك كانت تمثل رحلة الاستكشاف المثيرة والخطوة الأولى في عالم المعرفة والبناء ، بناء علاقات أوسع من دائرة المدرسة الثانوية الضيقة ،خطوة لمطالعة وجوه وأصوات جديدة ، بثقافات ومعارف وأزياء متنوعة حدّ الغنى ، فيتم البناء المتين لبنة تلو الأخرى ، لتبدأ علاقات جديدة أكثر عمقاً ورسوخاً وتفاعلاً.
كنت وقتها أرى جامعة دمشق أعرق جامعات ألعالم أجمع ، كيف لا وأنا فيها ، أجلس على مقاعدها المقدّسة أتلقى علوماً يجود بها أساتذة كبار وأصحاب نظريات عالمية يصارعون فيها كبار الأساتذة والفلاسفة والعلماء في العالم كله.
وهي كذلك بالفعل ضمت على امتداد عمرها القصير الكثير من كبار الشخصيات الفكرية وأنتجت قيادات عظيمة ومن مدرجاتها خرجت مشاعل التغيير الحضاري فأسقطت حكومات وأعادت بناء قواعد للتعاون المنتج الفعّال ، وكانت قصيدة واحدة ، أو مقطع منها كفيلاً بكونه خطّة عمل وبرنامج تطوير وطريقة أداء سليمة.
واليوم وسورية تحتفل بمئوية جامعتها الأعرق فإنها ترى نتاجها موزعاً على امتداد المحافظات كافة ، فتوزعت الجامعات والمعاهد والكليات المتفردة في كلّ منطقة ، وتزايد عدد الأساتذة بمختلف التخصصات العلمية والعملية ليكون المستقبل أكثر إشراقاً وأوسع أملاً.