الملحق الثقافي:
يفاخر الأميركيون أنهم أمة القطيعة مع الماضي، الماضي الذي سبق وجود وتأسيس الولايات المتحدة الأميركية وبالتالي فإن ما قبل تأسيسها غير ما بعده، لأنها أميركا وحسب زعم الآباء المؤسسين مكلفة برسالة سماوية وبالتالي إعادة صياغة العالم، هذه الفلسفة التي نقدمها بشكل سريع ومبسط ليست موضع نقاش عند الأميركيين، إدارات ومؤسسات بدءاً من مؤسسة الرسالة إلى أصغر مؤسسة تقوم هناك، صحيح أنها قد تكون جلية واضحة عند البعض أكثر، وهذا ما يلمسه المتابع لسياسات الولايات المتحدة التي تقوم على فكرة التكليف الإلهي لها برسالة سماوية وهذا يعني بالضرورة إعادة صياغة العالم وأمركته كما يريد المكلفون بهذه الرسالة.
ولم يكن بعض المؤسسين ليخفوا هذه الفكرة ومن ثم جاء من يعززها ويعمل عليها ثقافياً وإعلامياً وقد تبناها عالم النفس الشهير سكينر وهي قاعدة أساس عند الرئيس الأميركي الراحل ( ريغان ) ومن بعده جورج بوش الابن , وتجلياتها بعده في السلوك والممارسة تجاه الامم والحضارات الاخرى , والكونغرس الاميركي ينطلق من هذه الاستراتجية فينصب نفسه برلمانا للعالم كله , يشرع ويصدر القرارات وعلى الجميع الانصياع لإرادة السيد الاميركي المكلف ب>ادة صياغة العالم وانتاجه من جديد .
ومن أجل هذه الرسالة كانت إبادة الهنود الحمر بدم بارد والحروب التي تشنها الولايات المتحدة خارج حدودها ومن غير أي مسوغ شرعي ولايرف لهم جفن وهم يسلخون حتى جلود الضحايا أو يستخدمون أفتك وسائل القتل والتدمير لأن الآخر يجب أن يدجن ويرضخ أو يلقى مصيره المحتوم.
وإذا ما كانت المدافع الثقيلة تطلق حممها بلا رحمة فإن ثمة مدافع أخرى تعمل قبلها وتمهد لها و وتسير أيضاً على التوازي إلا أنها مدافع الثقافة وتغيير نمط التفكير عند الآخرين وغسل عقولهم وجعلهم في الكثير من الأحيان أداة طيعة للتنفيذ فما من قذيفة أو صاروخ أميركي اطلق على مكان في العالم إلا وكانت الادوات الناعمة قد سبقته ومهدت له في كل بقعة من العالم بدءاً من سينما هوليود ومدافعها التي اكتشف الغربيون خطورتها ولكن بعد فوات الأوان إلى تفكير عالم النفس الاميركي سكينر بإعادة هندسة الإنسان وتعديل سلوكه وتدجينه كقطيع نفذ بعضه جون ديوي، هذه الوقائع والمعطيات لم تكن تجري خارج إطار التخطيط من قبل الإدارات الاميركية التي تنفذ نصيبها من استراتيجية أمركة العالم ومن اجل مواجهة أي مد فكري أو عقائدي آخر مناهض تم تجنيد آلاف الكتاب والشعراء والفنانين، وابتكرت ألوان وفنون وأطلقت مجلات وصحف وتأسست محطات إذاعية وتلفزيونية.
مخابرات ثقافية
ربما لايعرف الكثيرون أن جهاز المخابرات الأميركي المعروف باسم ( cia)قد تم انشاؤه عام 1947م ليكون الجهة التي تتولى الجانب الثقافي في الحرب الباردة وقد تألف الجهاز في الأساس من بعض اعضاء مكتب الخدمات الاستراتجية الذي قام ترومان بحله وكان أول أعمال هذا الجهاز تكوين اول واجهة ثقافية يعمل من خلالها ( لتحصين العالم ضد وباء الشيوعية وتمهيد الطريق أمام مصالح السياسة الأميركية في الخارج ) وكانت الحجة الدائمة محاربة الشيوعية فعندما افتتح السوفييت كما تقول مؤلفة كتاب من دفع للزمار الحرب االباردة الثقافية (ف.س. سوندورز )افتتحوا بيتاً للثقافة في برلين سارع الأميركيون بافتتاح مراكز ثقافية في مختلف بلدان العالم كله لتقديم الثقافة الاميركية من خلال المعارض والسينما وحفلات الموسيقا وإرسال فرق موسيقية وأعطيت لجهاز المخابرات صلاحيات هائلة ومطلقة ليفعل ما يشاء من أجل حماية الصورة الاميركية التي ترسمها وسائل الدعاية والإعلام في خيال الآخرين ومن ثم تقرر عام 1947م أن يستخدم الجهاز الأنشطة النفسية والفكرية السرية لدعم حركة المقاومة السرية والمعارضة السياسية للولايات المتحدة وقفزت المخابرات الأميركية عام 1949م نحو تحقيق حق الانفاق اللازم على تمويل النشاطات دون تقديم بيانات عن أوجه الصرف حتى لايترك مستند يدل على دور الحكومة الاميركية.
ومنذ عام 1949م أخذت المواجهة الثقافية مع العالم ولاسيما الاتحاد السوفييتي بعداً آخر وامتد النشاط ليشمل العالم كله وتجنيد كتاب ومثقفين وإعلاميين ووضعهم في خندق العمل من أجل أمركة العالم ثقافياً وبالتالي ترويضه وتدجينه ويمكن للمتابع ان يجد الأدلة والشواهد على ذلك في الكتاب الآنف الذكر ( من دفع للزمار .. الحرب الثقافية الباردة ).
ويمكن أيضاً الاطلاع على سجل تحقيقات لجنة الكونغرس للنشاط غير الأميركي ( المكارثية والمثقفون .. شهادات لكتاب ومفكرين …….صدرت ترجمة الكتاب عن دار ابن خلدون في بيروت وفيه الوقائع الكاملة للتحقيقات التي أجريت وشهادات المعنيين بالامر وهذا ما عرف باسم المكارثية، وانتهى المطاف في الجولة الأولى من الحرب الثقافية الباردة إلى انهيار الاتحاد السوفييتي ليتفرغ الأميركيون من جديد لمواجهة ثقافات أخرى والعمل على نخرها.
تدجين العالم
نعم، انتهت الجولة الاولى من الحرب الثقافية الباردة بانهيار الاتحاد السوفييتي و وبدأت الجولة الثانية والثالثة وما بعدهما نحو العالم الثالث من خلال تطوير الأدوات واستخدام التقنيات وأحدث ما في العالم من أدوات تواصل وقدمت الثقافات الاخرى على إنها مجرد لهو ولاشيء و ساهم في هذه الموجة من الخواء أن معظم قادة العالم الثالث يرون الثقافة ترفاً والمثقف زينة للحاجة فقط والمثقف يطمح أن يكون سياسياً ليعيش مغانم السياسة وملذاتها وحين يصل الموقع يرفس كل الثقافة والإبداع ويتفرغ لكرسيه والكثير من الموبقات، فلا الوطن ولا الابداع ولاشيء إلا ان يبقى حيث هو و هذه حال الثقافة والمثقفين في العالم الثالث و ناهيك عن ضعف المؤسسات الثقافية والإعلامية ومعاملتها من قبل الجهات الوصائية كما لو أنها بقالية بائع خضرة، لابد أن يجرد كل يوم ما ربح وخسر والحجة الدائمة ( لايوجد تمويل ).
ولكن حين تقع الكارثة نسرع الى الاحتماء بالثقافة التي تصدعت، ومن دلل من ادعياء الثقافة يكون قد باع وهرب، والخواء سيد الموقف واليوم كما يقول جيريمي ريفكين في كتابه ( عصر الوصول الثقافة الجديدة للراسمالية المفرطة ) الحرب هي بكل تجلياتها حرب ثقافية و مهدت لها وسائل الغزو ومن لايتم تدجينه بوسائل الترف الناعم فثمة مدافع وحاملات طائرات ستتكفل بالأمر ولكن على الأغلب قد قضي الأمر لأن الثقافة آخر اهتمامات العالم الثالث، والترويض قد تم وثمة من وضع نفسه من ادعياء الثقافة والإبداع ليكون أداة ووسيلة و سواء عرف أم لا و الثقافة لاتبنى بالمال الشحيح، ولا بالأمنيات وليست سوق هال في نهاية النهار تعد وتحصي و هي الزرع الطويل والحصاد الأبقى ولو بعد قرون.
العدد 1151 – 11-7-2023