د. مازن سليم خضور
تتلخص الفكرة المحورية لكتاب “نظام التفاهة” للكاتب الكندي د.آلان دونو بأن البشرية تعيش مرحلة غير مسبوقة في تاريخها بعدما سيطر التافهون على جميع مفاصل الحياة، وتلازم مع هذه السيطرة وضع قواعد تتسم بالرداءة والانحطاط المعياري، تسببت في اختلالات في نظم الجودة والأداء، وتهميش لمنظومات القيم، وبروز للأذواق المنحطة، وخلو الساحة من التحديات، وأصبحت كل تلك الأزمات تصب في خدمة الأسواق تحت شعارات من الديمقراطية والحرية الفردية التي أصابت معانيها الابتذال.
فالتسطيح يضرب بجذوره في المجتمعات بهدوء وإصرار، حتى أصبح الجسد الاجتماعي مصابا بالفساد بصورة بنيوية، وتجلى ذلك في بعض مظاهر الحياة الإنسانية وهذا ما نشاهده في الظواهر الغريبة على وسائل التوصل الاجتماعي من خلال كسر كل المحرمات والمقدسات بكل أنواعها، وخاصة الاجتماعية منها، والأمثلة كثيرة فما نشاهده على منصات التواصل مخيف ومرعب ويعطي مؤشرا خطيرا عن الانحطاط والابتذال الذي وصلنا إليه، حتى إن بعض النخب وقعت في فخ هذه الوسائل بسبب الإغراءات والانجرار وراء الرغبة في تحقيق (الأنا) التي تتيحها لهم تلك الوسائل من جهة أو بسبب العائدات المالية التي تأتي من خلالها _ولو على حساب المضمون_ من جهة أخرى فكم من (نجم) شاهدناه على تلك المنصات بشكل لا يليق به وباسمه وبتاريخه باحثاً عن “الترند” !
الترند بالأصل مصطلح مالي يشير إلى اتجاهات السوق وحركة الأسهم صعوداً أو هبوطاً وبناءً عليها يتم استخلاص النتائج واتخاذ القرارات، تم استخدام هذا المصطلح في مجالات أُخرى لاسيما في السوشيال ميديا ويعني الموضوعات والقضايا الرائجة ومؤشرات الاهتمامات المشتركة التي يتناولها مستخدمو التطبيقات الاجتماعية، وغالباً ما ينشغل الجمهور بمثل تلك القضايا والموضوعات ويتحدثون عنها في منشوراتهم، ويشاركونها مع أصدقائهم بصورة كبيرة.
حالات الإسفاف في المضمون -بحثاً عن الترند- أكثر من أن تعد أو تحصى لاسيما في اختراق خصوصية المنازل وتشويه قيم المجتمع، وبالأخص قيم الأسرة، فبتنا نشاهد تحدي نزع حجاب الأم أو الأخت أو التعري أو تبادل الأحاديث الجنسية وغيرها من التحديات في ظاهرة لا يوجد تسمية تلخصها إلا “الدعارة الإلكترونية” أو التحديات التي ليس لها أي معنى مثل ظاهرة “التعفن في السرير” والتي تحولت إلى تريند إذ يقوم العديد من الأشخاص بقضاء يوم كامل في السرير.
أو ما يقدمه مشاهير الانترنت كهز الكروش أو الألعاب التي تجني الأرباح لكنها دون أي مضمون أو محتوى وللأسف الشديد أصبحوا القدوة بالنسبة للكثيرين.
ومن جانب آخر هناك أيضاً جانب بات يشكل خطراً كبيراً على حياة الأفراد والأمثلة كثيرة، فعلى سبيل المثال هناك تحدي “القفز من القوارب” حيث ظهر أشخاص يقفزون في البحر من على قوارب متحركة وكانت النتائج لدى البعض مأساوية.
فيما رُفعت دعوى قضائية ضدّ منصة تيك توك في كاليفورنيا نتيجة وفاة طفلتين شاركتا في تحدي التعتيم (“بلاك أوت تشالنج”)، الذي يشجّع المستخدم على خنق نفسه حتى الإغماء حيث يقوم الشخص بحبس الأنفاس حتى فقدان الوعي! فيما سُجلت وفاة عدد من الأطفال في إيطاليا وأستراليا ودول أخرى اعُتبرت مرتبطة بتحدي التعتيم.
ختاماً في ظل السيطرة المخيفة لتكنولوجيا المعلومات ومواقع التواصل الاجتماعي بتنا فعلا أمام تعويم ما تحدث عنه كتاب “نظام التفاهة” وما انتهى به الكاتب من أن السبيل للإطاحة بنظام التفاهة لا يمكن أن يتم إلا بكيفية جماعية أو ما يصفه ب “القطيعة الجمعية”مع ما يستلزمه ذلك من طرق تفكير إبداعية لإنهاء وجود المؤسسات والقواعد التي تضر بالصالح العام.. ينتقد المؤلف بروتوكولات المجاملات الاجتماعية ويستغرب من جعل دور وسائل التواصل منابر يعتليها التافهون لتحسين صورتهم والبحث عن تافهين آخرين يتقنون لعب الدور المناسب في نظام التفاهة.
إن طريق الخروج يبدأ من امتلاك وعي كامل متين بخطورة هذا النظام، ثم العمل على بناء تفكير مستقل متمرد على الأفكار السائدة التي تخدمه. دع عنك الإحباط، و“توقف عن السخط وانتقل للسؤال التالي: اعمل بلا هوادة لخلق توليف من القضايا الوجيهة، التقِ مع آخرين في تجمعات بخلاف تلك الطائفية والشللية، اسخر من الأيديولوجيات، اختزل المصطلحات التي تريد البروباجاندا كتابتها في جوهر ذواتنا، وحولها إلى موضوعات مجردة للتف