الملحق الثقافي- رنا بدري سلوم:
صدر عن دار العراب بدمشق كتابٌ مترجمٌ يحمل عنوان :(الإلحاد في العصور الوثنية القديمة) تأليف أ.ب. دراتشمان الباحث والمدرس السابق للفلسفة الكلاسيكية في جامعة كوبنهاغن الدانماركية، وترجمة الكاتب والمترجم السوري (حامد العبد) الذي كتب في مقدّمة الترجمة العربية للكتاب: « قد لا نبالغ إذا اعتبرنا أن موضوع هذا الكتاب قلما تمّ التطرق إليه سابقاً، سواء كان ذلك في الثقافة الغربية التي تعاملت مع الإلحاد بمفهومه المعاصر المحدود فقط، أو في ثقافتنا العربية التي أزهرت وأثمرت في ظلّ تراث توحيدي، تجاوز مفهوم الآلهة منذ زمن بعيد.. ومن هنا تأتي ترجمة هذا العمل كمحاولة لتسليط الضوء على المخاض الفكري الذي عانى منه الفكر الإنساني لقرون طويلة تجاه الإيمان الوثني القديم وما حمله من تبعات ونتائج على تطوره، وذلك قبل دخوله في مرحلة الديانات التوحيدية السائدة الآن واستتباب الأمر لها».
يتكون الكتاب من مئتي صفحة من القطع المتوسط، وهو مقسم إلى تسعة فصول، بدأه الكاتب بتسليط الضوء على مفهوم إنكار الآلهة والطريقة التي كان يتم التعامل بها مع هذا المفهوم من قبل أبناء ذلك العصر، لينتقل بعد ذلك إلى دراسة بدايات النقد البسيط للمعتقدات الدينية الشعبية عند الشعب الإغريقي بشكل خاص ذلك الشعب الذي أُشتهر عنه نزعته القوية للتأمل الفكري والفلسفي.
انطلق الكاتب في بحثه هذا من المذهب الطبيعي أو الأيوني (وهو مذهب أبدى الفيلسوف الإنكليزي برتراند راسل إعجابه الشديد به واعتبره أول محاولة علمية لتفسير الكون)، إذ بحث أتباع هذا المذهب عن أسباب طبيعية ليفسروا بها الكون، وقبل أي شيء أصل هذا الكون، كما عزوا الظواهر الطبيعية كالرعد والبرق لأسباب طبيعية بعيداً عن الغيبيات، كما ادعوا أن كلّ شيء تم نشوؤه من مادة أولية، أو من مزيج يضم عدة مواد أولية. وقد أورد الكاتب كمثال عن آراء أتباع هذا المذهب رأياً لأحد الطبيعيين الأوائل يدعى أناكساغوراس، وهو الذي أنشأ أول معهد للفسلفة في أثينا، وخلاصة هذا الرأي بأنه ما من شيء يأتي من العدم.
بيدَ أن النقد الأخطر الذي وجه إلى مفهوم الآلهة حسب رأي المؤلف، كان نقد الحركة السفسطائية (تلك الحركة التي يراها أعداؤها أنها تعتمد على نوع من الاستدلال يقوم على الخداع والمغالطات المنطقية)، إذ كان انتقادها مباشراً ضد الأعراف الاجتماعية، وضد المفاهيم الأخلاقية من حيث المبدأ.
ومن النظريات التي يرى الكاتب أنها حاولت أن تقدم تبريراً لوجود الآلهة، النظرية التي قدّمها السياسي كريشياس Critiasالذي كان معروفاً بنزعته الرجعية أو المُحافظة، إذ طرح نظرية مفادها أن الحياة البشرية في بدايتها لم تكن تعرف أيّ نظام اجتماعي، فكانت الغلبة فيها للقوي فقط، فتبادر إلى ذهن بعض الناس فكرةَ وضع بعض القوانين التي من شأنها أن تجعل الغلبة لما هو حق وصواب وليس لما هو قوي، فكانت نتيجة هذه القوانين الامتناع عن ارتكاب المظالم ولكن بشكل علني، في حين أنها ظلت تُرتكب خفيةً، فتفتّق ذهن أحد الرجال الحكماء عن فكرة خبيثة سريّة، وهي جعل الناس يؤمنون بوجود آلهة قادرة على رؤية وسماع أي شيء يقترفه الإنسان، بل وحتى الاطلاع على سرائر نفسه ونواياه الدفينة، وذلك من أجل إبقاء البشر في حالة خوف دائم من ارتكاب المظالم.
ويورد الكاتب نظرية سياسية يمكن اعتبارها معاكسة للنظرية السابقة، تتلخص في أن ثمة قانونين في هذا الوجود، القانون الطبيعي والقانون المُصطنع، أما القانون الطبيعي فيعني أن العدالة الحقيقية تكون إلى جانب الأقوى والأقدر، إلا أن هذا القانون جرى إفساده بواسطة التشريعات والقوانين التي تمَّ اختراعها من قبل الضعفاء، وهم السواد الأعظم بين الناس، وذلك من أجل تخويف الأقوياء وصدِّهم عن التفوق عليهم، ووفقًا لهذة البدعة فإن الآلهة بعد موت الناس ستكافئ الضعيف وتعاقب القوي.
مع سقراط وأتباعه بشكل عام يرى الكاتب أن العلاقة ما بين الفكر الإغريقي والدين الشعبي قد دخلت مرحلة جديدة، ومن سخرية القدر في مثل هذه الظروف أن يتمّ توجيه تهمة الإلحاد لرجل مثل سقراط، بل وأن يُحكم عليه بالموت وهو الفيلسوف الذي حصر نفسه بعلم الأخلاق وترك المسائل اللاهوتية وشأنها، والذي كان يحرص دائماً على أن تكون نقطة انطلاق تعاليمه مقبولة من الناحية الشعبية، وهكذا فإن افتراضه المُسبق بوجود الآلهة كان أمراً تفرضه الضرورة عليه وقراراً لا مفرّ منه. ويرى الكاتب أنه لا يمكن تجاوز رأي أفلاطون في الإلحاد، والذي كان بمثابة حجر عثرة في وجه المروجين له، فأفلاطون الذي قدّم في بداية حياته نقداً جارحاً للمفاهيم الشعبية عن الدين، وطرح تساؤلات جادة عن أهمية وجدوى الطقوس الدينية بجميع أشكالها الموجودة حينها، اتخذ موقفاً حاداً تجاه الإلحاد وخصوصاً في أعماله الأخيرة وبعد تقدمه في العمر.
وبموجب قوانينه يجب أن يحكم بالإعدام على هؤلاء الذين يفشلون في الرجوع عن إلحادهم؛ وهذا موقف شبيه بموقف أرسطو الذي أورده في كتابه (الأخلاق): «إن الذي يثير الشكوك فيما إذا كان يجب علينا تبجيل الآلهة أم لا، هو إنسان ليس بحاجة إلى التعليم بل بحاجة إلى العقاب».
وفي الفصلين السادس والسابع يتناول الكاتب مفهوم الآلهة والتغيير الذي طرأ عليه خلال الحضارة الهلينستية وعصر الإمبراطورية الرومانية التي تبوأت صدارة العالم حينها، وبيّن استغلال السياسة الرومانية لمفهوم الآلهة خصوصاً بعد سقوط اليونان الحرة Hellas، حيث أورد مقطعاً للمؤرخ (بوليبوس) كُتب في النصف الثاني من القرن الثاني قبل الميلاد عن تاريخ العالم قال فيه: «يبدو لي أن أعظم ميزة في القانون الروماني تكمن في دفاعه عن الآلهة، واعتقد أن الذي كانت بقية الشعوب الأخرى تزدريه، هو نفسه الذي وحّدَ السلطة الرومانية وأبقاها متماسكة، وأعني بذلك المعتقدات الخرافية. ولعل الكثيرين سيجدون هذا غريباً، ولكني أظن أن الرومان تصرفوا على هذا المنوال وعينهم على عامة الشعب، فلو كان من الممكن تأسيس دولة من الناس العقلاء، فعندئذ من غير الضروري اللجوء إلى مثل هذا الإجراء، ولكن نظراً لأن أيّ شعب يمكن اعتباره جمهوراً يتم التأثير فيه بسهولة، كما أنه مليء بالغرائز الإجرامية والعنف المفرط والانفعالات المهتاجة، فحينها لا شيء يمكن فعله سوى إبقاء هذه الجموع تحت رعب مبهم وغامض، كأنها حيلة سحرية أو عملية تمويه مخادع، وعلى الأرجح أننا نقوم بعمل طائش وغير مسؤول عندما نبحث في هذه الأيام عن طرق للقضاء على تلك المعتقدات».
وفي الختام ينهي دراتشمان كتابه بمراجعة تاريخية اعتبر فيها أن وثنية العصور القديمة قامت على أساس الدين البدائي للإنسان، بمعنى أنها من ناحية الأصل لها التكوين الرئيسي نفسه لأديان الشعوب البدائية، ومع ذلك فقد قطعت واجتازت مسيرة طويلة من التحول والتطور الذي حملها بعيداً جداً عن نقطة انطلاقها البدائية، و خلقت نظاماً هائلاً من الآلهة المعقدة. ومما لا شك فيه أن الفكر القديم تقدم بطريقة تجاوز فيها الدين الشعبي السائد، وهذا شيء فوق مستوى الشك، ولهذا السبب كان موقفه النقدي تجاهه، ويشكل هذا الفكر الحالة الجنينية لأي فكر متحرر أو متمرد أتى لاحقاً.
العدد 1152 – 25-7-2023