الانتماء في أدب حليم بركات

الملحق الثقافي:             

في كتابه المهم أدب المقاومة يقدم الدكتور غالي شكري قراءات في الانتماء ويقف عند رواية ستة أيام للراحل حليم بركات ويرى أنه يطرح قضية الانتماء في حياة هذا الجيل وقد سبق لنجيب محفوظ ان ناقش نفس القضية في الثلاثية أعني قضية(كمال عبد الجواد) وخرج من المناقشة بأن أزمة الانتماء في هذا المجتمع هي الحرية وها هو ذا حليم بركات يضيف عنصرًا جديدًا إلى الأزمة هو التخلف الحضاري.
والحق أن أزمة الحرية ومأساة التخلف الحضاري في المنطقة العربية من أخطر العوامل الصانعة لمشكلة المنتمي في بلادنا فالفروق الأساسية بيننا وبين الغرب في الوقت الراهن أننا ورثنا مرحلتنا الحضارية المعاصرة من أحضان التخلف الرهيب عن ركب الحضارة العالمي والتقاليد غير الديمقراطية في أسلوب الحكم فكان الانتماء إلى النظريات الاجتماعية والحلول الاقتصادية والسياسية أمراً لا مفر منه أمام الضمير العربي وكان الانتماء مجرد أمنية تمليها الظروف السيئة على الوجدانات المرهقة أما في بلاد الغرب فالعكس هو الصحيح :الموقف الأصلي هو اللانتماء أما الانتماء فهو مجرد أمنية يمليها الحنين على الوجدانات المعذبة لذلك كان نجيب محفوظ في منتهى الصدق الفني والإخلاص للحقيقة الماثلة حين جعل أزمة كمال عبد الجواد تنتهي بالانتماء إلى الثورة الأبدية بالانحياز إلى صدى كلمات ابن شقيقته أحمد شوكت.
أما حليم بركات فقد وضع شخصيته الرئيسية (سهيل) في اتون الأزمة في قلب المحنة في اللحظة الحاسمة من تاريخ المأساة.
إن سهيل احد أبناء قرية(دير البحر) التي أنذرها اليهود بالاستسلام خلال أسبوع والا تلاشت نهائياً مع رياح الموت والدمار وتبدو أهمية الزمان والمكان هنا بالغة من زاويتين:الأولى فكرية وهي أن الفنان أراد أن يستشف أعماق هذا النموذج البشري في ذروة اللحظة الحرجة والأخرى تعبيرية وهي أن البناء الروائي يخلو عادة من الحواشي والذيول عندما يأخذ الزمن في الاتساع والعمق لا في التراخي والطول لذلك يلجأ الكاتب إلى المونولوج الداخلي والمذكرات الشخصية والأحلام وكافة مستلزمات التعبير عن الماضي والحاضر والمستقبلي في قطاع زمني قصير المدى.
إن أهمية الزمان والمكان تخضع بصورة تلقائية للحدث الرئيسي الذي يتمدد فيهما معاً من خلال الشخصيات الثانوية والرئيسية على السواء.
والحدث في (ستة ايام) هو محنة دير البحر أمام إنذار الأعداء (ان تستسلم دير البحر أو تمسح عن وجه الأرض) كما يقول السطر الأول في الرواية هذا الحدث يتجسد في الشخصية الأولى :سهيل الذي يتمدد في داخله ومن خارجه مونولوج طويل يتشابك مع أول خيوط المأساة (الضباب المتكاثف يتصاعد ويحيط بدير البحر فيفصلها عن العالم إنها سفينة من أرض كنعان تمخر البحر لأول مرة متحدية الموت الجحيمي عند أطراف الوجود) (السفينة تواجه الموت بلا دفة رغم هذا تتحدى) (أن أمة كبيرة ستهلك).
هذا الخيط يصل بينه وبين المجتمع أو الأمة كفكرة لا تنفصل عن ذاته.
أي أن يشعر حتى النخاع بأنه مع الأرض التي نبت من ترابها فكرة واحدة لا تتجزأ وقضية الانتماء لا تبدأ من هنا انها تبدأ من تصور الفرد للمجتمع كمجموعة من الأفراد من تصور سهيل لفريد وعبد الجليل وناهدة وخالد ولمياء ويليان من حركة الفرد في المجتمع تبدأ القضية أقصد تبدأ الأزمة.
وباختيار المؤلف لمأساة فلسطين محوراً فنياً المناقشة هذه القضية نضع ايدينا على جملة اشياء.. فهو اي الفنان يلتزم تلقائياً بوجهة نظر المنتمي إلى المأساة ويشير هذا الاختيار في نفس الوقت إلى أن هذا المنتمي في أزمة.. وهذا هو الإطار الفكري للرواية :سهيل شاب فلسطيني تعرف إلى أوروبا معرفة حميمة (نذر نفسه لا يدري لأي شيء يغترب أحياناً وأحياناً يحس أن الحياة رائعة يكفي أن يكون فيها موسيقا وكتاب وامرأة ونقاش).
أما روايته طائر الحوم كما تقول الموسوعة الحرة عنها هي متفردة بالغة الرقة والحساسية، إضافة إلى مرآتها في التصدي لعدد من القضايا الشائكة التي تكاد تكون حرمة هذا عدا عن معمارها الفني الجديد والمتميز.. وبقدر ما توغل هذه الرواية في الماضي. بحيث تبدو أقرب إلى سيرة الطفولة، فإنها شديدة الحضور من الراهن، في الهموم المعاصرة، كما لا تغفل عن التنبيه لأخطار المستقبل.. لذلك ليس من السهل تضيفها ضمن العناوين السائدة، أو حصرها في إطار ضيق، إنها تذكر وبوح وتأمل، وتصل في أحيان كثيرة إلى مستوى الشعر الخالص، دون أن تنسى خطها الدرامي الذي يجعلها إحدى أبرز الروايات التي صدرت في السنوات الأخيرة..في رواية طائر الحوم يقدم لنا حليم بركات بأسلوب شاعري أخّاذ تقريراً صادقاً عن حياتهِ الشخصية، ففي رواية قصيرة ذاتية ومركزة يستعيد بركات ماضيه كله ويزودنا بوثائق أصلية عن رحلة حياة طويلة في الاقتلاع والحنين إلى الوطن والاغتراب والنفي الأبدي.
تبدأ بنقطة ارتجاع سينمائية وتنفتح على مشهد من الماضي هو» الكفرون « قرية المحرر ومسقط رأسه إذ تظهر في السماء أسراب من طيور الحوم الوديعة الرائعة الجمال تتأمل رحيلها إلى مناطق دافئة بعد حتى انتهى موسم الصيف وبدأ فصل الخريف.. وسرعان ما يتحول هذا المشهد الهادئ الجميل إلى مشهد دموي إذ يطلق الصيادون الأشرار نيران بنادقهم فجأة على الطيور البريئة فتسقط مضرجة بجراحاتها بأجنحة مترنحة ويتناثر ريشها الأبيض والأسود فوق رؤوس الأشجار ثم يسقط في النهر حيث يمتزج ماؤه بالدماء.. وأمام هذا المشهد يقف الطفل الراوي مراقباً بجزع وخوف الطيور الصامتة البريئة وهي تنتظر موتها البطيء.
بات الطفل الراوي الذي شهد عدوان الصيادين وشر الناس معذب روح الطفولة نتيجة الظلم والعدوان الممارس ضد الطيور والمنطبق على الأفراد والمجتمعات والأمم.. كما بات مشحوناً بكراهية شديدة لبشاعة هذا العالم، الذي ينذر نفسه داعية للتمرد والحرية والثورة في جميع مجالات الحياة.
وفي مشهد آخر يستعرض بركات ذكرى أليمة عصفت به وهو طفل حين يقف برعب وهول أمام فراش أبيه الذي كان يقابل الموت في آخر لحظات احتضاره، فتأتي حادثته بالغة التأثير قوية، خارقة للروح وباعثة على البكاء.. إضافة إلى وصفه لشخصية أبيه، هذه الشخصية التي طغت على الرواية وتسربت في ثناياها، تدخل وعي القارئ ولا تخرج منه.. لقد رسم صورة رائعة، صورة أب أصيل من أيام الدنيا الغابرة، مثالي، ذي وقار وذي هيبة يمضي عمره في خدمة زوجته وأولاده.
الطفل يكبر ثم يرحل إلى أميركا ويصبح أستاذاً جامعياً.. لكنه في البلد الذي هاجر إليه يعود للقاء الموت من جديد.. هذه المرة يقابل موت أمه الطاعنة في السن هذه الأم هي مريضة الآن بأكثر من سقم ومصابة فوق ذلك بالنسيان وأمست في حالة فقدان وعي دائم وتتأرجح ما بين الحياة والموت وإن كانت حادثته في موت أبيه حادة ومؤثرة إلا حتى حادثته في وصف صورة أمه المقدسة لا تقل قوة وحساسية عنها بل تنحفر بعمق في وعي القارئ وتبقى خالدة.
مقتطفات من الرواية
اسمع زهقت من هذه العيشة، شغل، نوم، قراءة الجريدة، مراقبة التلفزيون، دفع الفواتير، عزائم، طبخ، جلي، إلى متى تستمر هذه العيشة؟ ما معناها؟ متى نتمتع بما نملك؟ غداً لن نملك حياتنا.
أحلم أن نتحرر من كل المسؤوليات بما فيها العمل ونسافر إلى مختلف انحاء العالم، ولكننا لا نفعل شيئاً يستحق الذكر، ننهض صباحاً، نشرب القهوة، نقرأ الجريدة، نمضي إلى العمل فنغرق في دهاليزه وتفاصيله، ونعود مرهقين فنشرب كأساً، نأكل، نراقب التلفزيون، وننام في مقاعدنا قبل ان نذهب إلى الفراش.
حياتنا، مزيد من المآسي، من التفتت حتى يتقاتل الإنسان مع نفسه إذا لم يجد من يتقاتل معه، من الكفاح العبثي، من الانهزامات التاريخية، من الانحدار إلى مستويات من الهزال لم نكن نتصور أنه يمكن الوصول إليها.
الإنسان هو المسؤول عن إنقاذ الآلهة كما كان مسؤولاً عن خلقهم.
أهم ما يجب أن يتعلمه الإنسان هو ان يعرف متى وكيف ولماذا يموت، هل أعرف كيف أموت في المستقبل؟ في أي مستقبل أريد أن أموت؟ هل أدرك متى يحين وقت الرحيل بأناقة وكرامة وطمأنينة؟ هل سأتمكن من الوصول إلى قرار قبل ان اجتاز ذلك الخط الفاصل فلا أعود أميز بين الخيال والواقع؟
نستهضم نحن العرب الأجنبي إذا ما حاول أن ينطق بالعربية ولو جاءت كلماته مشوهة، ونحاسب أنفسنا بقسوة فنسخر من أحدنا إذا اقترف خطأ صغيراً عندما يتكلم الإنجليزية أو الفرنسية.
لن نتوقف عن الحب، لن نترك أنفسنا تتجاوز الحدود التي لا يمكن بعدها ان نسيطر على حياتنا أتمنى ألا نترك أنفسنا
– كيف ندرك أننا نقترب من الحدود؟
– أرجو أن ندرك، لم نختر ولادتنا، على الاقل يجب أن يكون بإمكاننا أن نختار موتنا
– أرى حوارنا غريباً
– أنت على حق
– من ناحية أخرى نكبت دائماً تساؤلاتنا الحرجة
– نعيش حالة شعرية عابرة، وطالما نعيشها لا أجد ضرورة للعودة إلى الواقع والتحليل، لنتمتع بها فقط، كم مرة في العمر نفلت من دورة الواقع.
– في حالتك يجب أن تسأل كم مرة تعود إلى الواقع
– الحلم الواقع، ما الفرق بينهما، ليس هناك حدود فاصلة، ربما كلاهما وجه للحقيقة.
اعتدنا أن نسلك الطريق السليمة، نتجنب المغامرات حتى تفرض علينا فرضاً.
أكاد أصل إلى شفير البكاء، وضع محزن حقاً، بالنسبة لي، لم أبك منذ زمن بعيد، أظن أنني تجاوزت مرحلة البكاء، آه من القهر، أن تكون في حفرة رطبة وحدك ودون وعد بالخلاص شيء يمزق قلبي، أحس بألم داخل دماغي وفي صدري ومعدتي، تعبنا من الهجرة.
طالما تصر أن تجعل الكفرون (قرية الكاتب) المرجع، لن تتمكن أن تبدأ علاقات جديدة وترى نوعاً آخر من الجمال، ولو كنت منصفاً ستقودك مقارنتك إلى إعادة النظر!
هم اقتلعوا أنفسهم من مجتمعاتهم السابقة ولم يلتفتوا إلى الوراء، فأصبح بإمكانهم أن يبدؤوا أنقياء.
               

العدد 1165 –  31-10-2023   

آخر الأخبار
محافظ اللاذقية يتفقد فرع الهجرة والجوازات وأمانة السجل المدني اشتباكات مع المجموعات المسلحة الخارجة عن القانون في الصنمين بعد رفضها تسليم عناصرها تنظيم حركة المركبات والدراجات في حمص ارتفاع حصيلة الضحايا في الصنمين إلى خمس انطلاق سوق "رمضان الخير" في دمشق لتوفير المنتجات بأسعار مخفضة المعتقل صفراوي عالج جراح رفاقه في سجن صيدنايا وأنقذ الكثيرين "حركة بلا بركة" تفقد واقع عمل مديريات "التجارة الداخلية" في اللاذقية خسارة ثالثة على التوالي لميلان تكثيف الرقابة التموينية بطرطوس.. ومعارض بأسعار مخفضة برشلونة يستعيد صدارة الليغا باحث اقتصادي لـ"الثورة": لا نملك صناعة حقيقية وأولوية النهوض للتكنولوجيا شغل (الحرامات).. مبادرة لمجموعة (سما) تحويل المخلفات إلى ذهب زراعي.. الزراعة العضوية مبادرة فردية ناجحة دين ودنيا.. الشيخ العباس لـ"الثورة": الكفالة حسب حاجة المكفول الخصخصة إلى أين؟ محلل اقتصادي لـ"الثورة": مرتبطة بشكل الاقتصاد القادم المخرج نبيل المالح يُخربش بأعماله على جدران الحياة "الابن السيئ" فيلم وثائقي جسّد حكاية وطن استبيح لعقود دورة النصر السلوية.. ناشئو الأهلي أولاً والناشئات للنهائي كرة اليد بين أخطاء الماضي والانطلاقة المستقبلية