الشاعر العربي و مسألة الانتماء والالتزام

الملحق الثقافي- د. رمضان حينوني – الجزائر:
من موقع بوابتي يطل علينا الدكتور رمضان حينوني ليكتب عن الشاعر العربي والانتماء.
مذ ربط الإنسان القديم الشعر بالجن، كان في حقيقة الأمر يعبر عن اختلاف الشاعر عن غيره من البشر، ذلك الاختلاف الذي يضعه في عالم معنوي قائم بذاته ينجم عنه نظم كلام يحتاج إلى معرفة وإدراك وخبرة لفك شيفراته وفهم أبعاده، فبدا الشاعر وكأنه إنسان فوق البشر من حيث قوة البيان والقدرة على تأليف المعاني والصور تفوق تلك التي يملكها عامة الناس، ومن ثم نظر للشاعر على أنه إنسان من طينة مميزة، ونظر هو إلى الآخرين على أنهم لا يرتفعون دائماً إلى مستوى فهم ما يريد.
ويشترك الشاعر- إلى حد ما- مع المثقف النخبوي في هذه الوضعية، من حيث علاقته بالآخرين، وإن كان الشاعر مطالباً بالإبداع أكثر من المثقف، وإنتاجه ليس واعياً دائماً أو ليس مرتبطاً بعالم الحقيقة في كل حال، ومن هنا كان الأديب أكثر قدرة على التأثر بأحداث المجتمع وتقلباته، وأكثر قدرة على مواجهة ما تأتي به تلك التقلبات من فوائد أو مضار، مع اختلاف في درجة ذلك بين أديب وآخر.
والأديب إذ ينطلق من ذاته في رؤيته للعالم المحيط به، فإن عوامل كثيرة تتدخل في تشكيل تلك الرؤية ومستقبلها، من ذلك تكوينه النفسي والثقافي، والتجربة الحياتية التي تنميها جملة من العوامل الاجتماعية والدينية والسياسية، فتبلورها في مجموعة سلوكات ومبادئ تترجم إبداعًا، يخلص فيه تارة للجماعة على حساب ذاته، وتارة يعطي ذاته الأولوية وإن حدث الصدام بينه وبين الجماعة التي ينتمي إليها، والتي تريده صوتها وصورتها في مقابل الآخرين، دون أن تتفهم خصوصياته وأبعاد تفكيره التي مهما تكن علاقته بالجماعة، فإن لها تميزها واستقلاليتها اللذين يرسمان اتجاهها في التعبير، ورؤيتها للأمور المتعلقة بالإنسان ومحيطه الاجتماعي.
والأدباء كغيرهم من النماذج البشرية لا يتعاملون مع الواقع المفروض أو الانتماء القسري بدرجات متساوية، ذلك أن» بعضهم يستكين إلى تلك الظروف والانتماءات، وبعضهم يرى في جوانب منها ما يعوق تقدّمه، فيبحث عن الخلاص بتصور الحلّ، وإقرانه بالعمل اللازم لإزاحة ما يعوق التقدم، وفي أثناء ذلك يحدث الجدل، فيكون حاداً بالصراع أو هادئاً بالحوار، وفي كلتا الحالتين تظهر إرادة الإنسان القادر على التدخل في سير الظروف، مسلّحاً بالمعرفة البسيطة أو العميقة للقوانين التي تحكم الطبيعة والوجود الإنساني معاً» (1). وفي كل حال من هذه الأحوال يسعى الأديب إلى تبرير اتجاهه، والدفاع عن موقفه في وجه الانتقادات التي يتعرض إليها من ذوي الاتجاهات الأخرى.
من هنا تطرح قضية الانتماء والالتزام عند حديثنا عن موقف الأدباء مما يحدث في محيطهم العام متعدد الأوجه، ذلك الموقف الذي يتعرض لكثير من الضغوط الخارجة عن نطاق الذات، فيحاول الأديب التكيف مع الواقع آخذًا بعين الاعتبار منطق الربح والخسارة، سواء على المستوى الشخصي أو المستوى الاجتماعي.. غير أن المسألة غاية في الصعوبة خاصة في أزمنة الأزمات التي تعصف بالمجتمع، أين يجد نفسه بين مطرقة مبادئه التي تربى عليها أو التي اكتسبها عبر ثقافة تراكمية، وبين سندان التوجهات السياسية والاجتماعية التي تدعوه إلى اتخاذ موقف معين، أو أكثر من ذلك تدعوه إلى الدفاع عن وجهات نظر السلطة التي يحتمي بها، سواء كانت سياسية أو دينية أو اجتماعية، حتى وإن كانت درجة الاقتناع بالمهمة المنوطة به أحياناً ضعيفة.
غير أن هذا الانتماء لا ينتفي بالضرورة إذا عارض الفرد رغبات الجماعة أو توجهاتها، بل هو قابل لأن يكون انتماء شكلياً في مقابل الانتماء الجوهري الذي يرتقي إلى مرتبة الولاء، كما يرى الدكتور فرج عبد القادر طه، إذ إن « الفرد قد يكون عضواً في جماعة، ومحسوباً عليها إلاّ أنه لا يرتضي معاييرها، ولا يتوحد بها، ولا يشاركها ميولها واهتماماتها، فهو ينتمي إليها شكلاً، وليس قلباً، وفي هذه الحالة يصبح منتمياً إلى هذه الجماعة بينما يكون ولاؤه… لجماعة أخرى أو لزعيم آخر أو لمبدأ مغاير للجماعة المنتمي إليها»(2) . ولا يصل الأمر إلى هذه الدرجة عادة إلا حينما يتعرض الأديب إلى الاضطهاد الذي لا يلجأ فيه فقط « إلى أساليب العنف الظاهر بل إلى أساليب دقيقة جداً تهدف إلى عزل الكاتب وتهديم شخصيته وإسكاته»(3)
أما الحلقة الوسط بين الولاء والانتماء الشكلي فقد يكون ما يمكن تسميته بالولاء الواعي، ذلك الذي تتسع فيه دائرة الالتزام « بحيث تترك للكاتب الحق والحرية في تحديد قضايا المجتمع المهمة من زاويته الخاصة»(4) ، حتى وإن كانت متفقة أحياناً وتوجهات السلطة ومؤسساتها؛ ذلك أن المثقف بوجه عام- ومهما كانت علاقته بالسلطة – ليس مسخراً ليكون معارضاً أبدياً لها ولا بوقاً يوصل صوتها، فقد يلتقي طرحه مع طرحها حيناً من الدهر، ولكنه لا يستمر على ذلك طويلاً نتيجة للتغيرات والتقلبات التي تعتري السلطة، ويمكن اعتبار مثل هذه العلاقة بين هذين الطرفين امتحاناً حاسماً لمدى استقلالية المثقف ونزاهة توجهه.
والاضطراب في الانتماء ليس سمة سلبية بالضرورة؛ بل قد يعد بحثاً عن الحرية أو التحرر من المعيقات التي تحول دون اطمئنان الفرد إلى الوسط الذي يعيش فيه، ونذهب في هذا مع الدكتور فاروق أحمد اسليم الذي يرى» أن تنوع الانتماء هو نتاج جدل الإنسان، وهو يبحث عن الوسائل التي ترقى به نحو التحرر، والانفلات من الظروف التي تعوق تطوره»(5) ، ويدل ذلك على الدور الذي يلعبه وعي الفرد، والمثقف على وجه الخصوص، في توجيه الانتماء بأشكاله المتعددة قبلياً أو سياسياً أو فكرياً.
أما خارج هذه الأشكال من الانتماءات، فنجد الأديب اللامنتمي الذي لا يجد طريقاً إلى لعب دور حقيقي له في الحياة العامة يعبر عن إرادته، ويعبر عن وجوده ككائن مستقل، وخصوصاً في العالم الصناعي الذي شيأ الإنسان وحوّله إلى مجرّد آلة، فاغترب عن نفسه وعن مجتمعه، وأصبح كبطل رواية هنري باربوس (الجحيم) لا يجد» طريقاً هنالك إلى الخارج أو إلى ما حول أو إلى الداخل «(6).
ورغم أن الصورة التي رسمها كولن ولسن للإنسان اللامنتمي لا تنطبق بالضرورة على كل النماذج اللامنتمية، لاختلاف البيئات والمنطلقات الفكرية، إلا أنها تعبر من زاوية معينة عن طبيعة هذا النموذج الذي « يدرك ما تنهض به الحياة الإنسانية من أساس واه، والذي يشعر أن الاضطراب والفوضوية هما أعمق تجذراً من النظام الذي يؤمن به قومه»(7) وهو بالتالي يرفض أن يكون في منظومة اجتماعية لا يرى أنها تحقق أناه الحقيقية، فهو دائم البحث عن ذاته وعالمه، ولهذا يعيش شقاء يقربه في نظر الآخرين إلى المجنون، مثل ما حدث لـ(فان كوخ) الذي انتهى به المطاف إلى الانتحار.
وفي كل هذه الحالات المرصودة المتعلقة بالانتماء واللاانتماء، لا نجد الفرد في كامل الاطمئنان إلى علاقته مع الآخرين، فمهما تنازل عن بعض قيمه ليتأقلم فهو يظل مدركا لخلل نسبي تتفاوت درجته في تلك العلاقة، وذلك أمر طبيعي إذا علمنا أن الذات لا ترتبط بالقوانين والضوابط التي نجدها في المجتمع، وعليه فإن الحرية التي تريدها الذات لا بد أن تواجهها معوقات يفرضها النظام المسير للجماعة الإنسانية، فينجم عن ذلك عدم التطابق بين الطرفين يتمظهر في شكل ما من أشكال التعبير الانتقادي لدى الأدباء، كما لدى غيرهم ممن يستخدمون المنابر التعبيرية المختلفة.
وبناء على ما سبق، نجد عبر التاريخ العربي والإنساني نماذج متباينة لشعراء اتخذوا مواقف معينة مما يجري في محيطهم المضطرب تحت وطأة الأعراف والقوانين، أو تحت وقع القلاقل والحروب والفتن وغيرها، مع ما يترتب عن ذلك من ثمن يدفعه الأديب، أو مغنم يحظى به مقابل ذلك، بصرف النظر عما إذا كان المغرم والمغنم مقصودين أم لا.تجذراً في إنسانيتها، وأشد حساسية في نشدانها لمثل أعلى، يخلق لديها نوعاً من التوازن في عالم كاد أن يكون مستغلقاً بسبب الصراعات عن الحمى»(10).
                            

العدد 1165 –  31-10-2023   

آخر الأخبار
تنظيم حركة المركبات والدراجات في حمص ارتفاع حصيلة الضحايا في الصنمين إلى خمس انطلاق سوق "رمضان الخير" في دمشق لتوفير المنتجات بأسعار مخفضة المعتقل صفراوي عالج جراح رفاقه في سجن صيدنايا وأنقذ الكثيرين "حركة بلا بركة" تفقد واقع عمل مديريات "التجارة الداخلية" في اللاذقية خسارة ثالثة على التوالي لميلان تكثيف الرقابة التموينية بطرطوس.. ومعارض بأسعار مخفضة برشلونة يستعيد صدارة الليغا باحث اقتصادي لـ"الثورة": لا نملك صناعة حقيقية وأولوية النهوض للتكنولوجيا شغل (الحرامات).. مبادرة لمجموعة (سما) تحويل المخلفات إلى ذهب زراعي.. الزراعة العضوية مبادرة فردية ناجحة دين ودنيا.. الشيخ العباس لـ"الثورة": الكفالة حسب حاجة المكفول الخصخصة إلى أين؟ محلل اقتصادي لـ"الثورة": مرتبطة بشكل الاقتصاد القادم المخرج نبيل المالح يُخربش بأعماله على جدران الحياة "الابن السيئ" فيلم وثائقي جسّد حكاية وطن استبيح لعقود دورة النصر السلوية.. ناشئو الأهلي أولاً والناشئات للنهائي كرة اليد بين أخطاء الماضي والانطلاقة المستقبلية سلتنا تحافظ على تصنيفها دولياً الأخضر السعودي يخسر كأس آسيا للشباب