الثورة – مها دياب:
الاختفاء القسري ليس مجرد غياب جسدي، بل هو فعل عنيف يمارس ضد الذاكرة، وضد الحق في المعرفة، وضد إنسانية الإنسان.
في سوريا كما في كثير من الدول التي شهدت أنظمة قمعية، تحوّل هذا الفعل بيد النظام البائد إلى أداة ممنهجة لإسكات الأصوات، وتفكيك الروابط، وزرع الخوف في كل بيت.
آلاف الشباب اختفوا في ظروف غامضة، من دون محاكمة، من دون تهمة واضحة، ومن دون أن يُمنح ذووهم حتى حق السؤال.
الاختفاء القسري يخلق فراغا لا يُملأ، ويحوّل الحياة اليومية إلى سلسلة من الانتظارات الموجعة، كل باب يطرق يحمل احتمالاً، كل مكالمة مجهولة قد تكون خيطاً، وكل حلم في الليل قد يكون رسالة من الغائب.. إنه ألم لا يحتمل، لأنه لا يحمل يقيناً، ولا نهاية، ولا حتى بداية واضحة.
وفي هذا السياق، تبرز قصة عائلة دياب من عين حور، في مدينة الزبداني التي قدّمت خمسة من أبنائها شهداء، وواجهت الاختفاء القسري كجدار لا يخترق، لكنها لم تتوقف عن طرقه.. هذه الحكاية ليست فقط عن الغياب، بل عن الإصرار على التذكر، وعن قلوب لا تزال تنبض بالأمل.
الغياب الذي لا يُفسر
رامي دياب، أحد أبناء عين حور، كان من أوائل من حملوا أرواحهم على أكفهم لنقل المنشقين والذخيرة إلى الزبداني المحاصرة، كان يعرف أن الطريق موت، لكنه اختاره، اعتقل أكثر من مرة، وتعرض للمضايقات الأمنية بشكل دائم، وفي آخر مرة، اختفى عند حاجز أمني، ومنذ ذلك اليوم لم يعرف عنه شيء.
شقيقه حسام يروي: “حاولنا بكل الطرق أن نعرف عنه شيئاً، دفعنا أموالاً، تلقينا وعوداً كاذبة، قيل لنا إنه في سجن كذا، ثم في فرع كذا، لكن لم نحصل على أي نتيجة، حتى أن أحدهم طلب أموالاً كثيرة، وقال لنا: إنه سيحاكم محاكمة عادلة، ولكنه كان يكذب”.
والدته، أم عساف، تتحدث بصوت مكسور، وكأنها تخاطب الغياب نفسه: “رامي لم يكن مجرد ابن، كان سندي، كان قلب البيت، كان يضحك رغم التعب، ويحضنني كلما ضاقت الدنيا.. حين اختفى، اختفى معه جزء مني.
كل صباح أفتح الباب وأتخيل أنه سيعود، كل صوت على الدرج يجعلني أرتجف.. لا نعرف إن كان حياً أم شهيداً، فقط أريد أن أعرف مكانه، حتى أقرأ له الفاتحة، وأضع وردة على قبره- إن وجد”.
الشهادة بعد المطاردة
عامر، شقيق رامي، كان أيضاً هدفاً للملاحقة، بسبب مساعدته للثوار في الزبداني.. كان لديه بنيته القوية يساعد أهله في الزراعة، وكان تحت المراقبة الدائمة، ويتعرض للملاحقات، ويعرض أهله للمداهمات الدائمة.
يقول شقيقه حسام: “في إحدى المداهمات تم أخذنا جميعاً للضغط على عامر من أجل تسليم نفسه”، وفي إحدى الغارات، على أماكن الثوار في الزبداني استهدف المكان الذي كان فيه واستشهد.
تقول والدته وهي تمسح دموعها: “عامر،، كان قوي البنية، يحب الأرض، يزرعها بيديه، ويعود محملاً بالخضار والابتسامة، كان يساعد الثوار، لكنه لم يحمل سلاحاً، في آخر مرة قصفوا المكان الذي كان فيه، واستشهد.
على الأقل عامر وصل إلينا، واستطعنا أن نودعه ودفناه، ولكننا لم نستطع أن نوفيه رسمياً إلا بعد التحرير، لأن النظام المجرم حاول أن يبتزنا حتى في وفاته أن نقول: إن الثوار هم من تسببوا بموته، وتابعت: قلبي يؤلمني إلى الآن، فرامي لا قبر له، لا خبر، لا وداع، هذا ما يقتلني كل يوم”.
أبناء العم.. الغياب الجماعي
يقول حسام دياب، وهو ينظر إلى صور أبناء عمومته المعلقة على الجدار: “جلال، شادي، وسام، كانوا أكثر من أقرباء، كانوا إخوة في الروح، كبرنا معاً، تقاسمنا الخبز والخوف، وكانوا من أكثر الناس طيبة وشجاعة”.
ويتابع حسام: “في عام 2013، اختفوا الثلاثة خلال فترة قصيرة جداً، لا تتجاوز أسبوعين، كل واحد منهم تم توقيفه على حاجز أمني، وكل مرة كنا نأمل أن يعود أحد منهم، أن يكون مجرد تحقيق، لكن لم يرجع أحد، لم يصلنا أي خبر، لا ورقة، لا اتصال، لا حتى إشاعة، كأنهم اختفوا من الوجود”.
“بعد التحرير، بحثنا عنهم في كل مكان، في السجون، في المستشفيات، في المقابر الجماعية، لم نعثر على شيء، حتى الملفات كانت ناقصة، والأسماء مشطوبة، وكأنهم لم يكونوا يوماً هناك”.
يخفض حسام صوته ويضيف: “العائلة قررت اعتبارهم شهداء، ليس لأننا نملك دليلاً، بل لأننا تعبنا من الانتظار، لكنني ما زلت أسمع صوت شادي وهو يضحك، وأتذكر جلال وهو يعمل في الأرض، وأشعر بوسام وهو يربت على كتفي ويقول لي: لا تخف، نحن بخير”.
“الاختفاء القسري لا يغيب الأشخاص فقط، بل يغيب الحقيقة، ويغيب الأمل.. نحن لا نطلب سوى أن نعرف أين هم، كيف رحلوا، أو إن ما زالوا أحياء، نريد قبراً نزوره، أو خبراً نصدقه”.
صوت الأمهات الباحثات
في حي آخر من عين حور، تعيش فريزة أحمد، امرأة تجاوزت الخمسين، لكنها تحمل في قلبها ما لا تحمله الجبال.. ليست فقط زوجة مرشد الذي اختفى منذ ثماني سنوات، بل هي أم لسبعة أبناء، ربتهم وحدها، في ظل غياب الزوج، وظلال الحرب، وثقل المسؤولية.
تقول فريزة: “مرشد خرج إلى عمله ذات صباح، ولم يعد، ترك الباب مفتوحاً، والكرسي الذي كان يجلس عليه فارغاً، منذ ذلك اليوم، وأنا أعيش بين المؤسسات، أطرق الأبواب، أسمع وعوداً لم تتحقق، كل يوم يمضي، تزداد الأوراق، وتقل الإجابات، لا أريد وعوداً، أريد أن أعرف.. هل أبحث عنه أم أعيش على ذكرى لن تعود؟” ثم تضيف بصوت يختلط فيه الحزن بالفخر: “ربيت أولادي وحدي، علمتهم أن يكونوا أقوياء، أن لا يكرهوا، أن لا ينتقموا.. لكنني لا أستطيع أن أشرح لهم لماذا اختفى والدهم، ولا أين ذهب.
عندما كانوا صغاراً دائماً ما يسألوني: هل مات بابا؟ فأقول لهم: لا، هو حي في قلوبنا، حتى نعرف الحقيقة”.
فريزة وأبناؤها الذين كبرو في غياب والدهم، ليس لديهم طلب سوى شيء واحد: معرفة مصيره، معرفة أين ذهب من تحب، وكيف رحل، أو إن كان لا يزال ينتظر خلف باب لا يفتح.
الغياب الذي لا ينسى
وأخيراً.. إن الاختفاء القسري يسرق من العائلات حق الحزن، وحق الوداع، وحق العدالة، إنه جرح مفتوح لا يلتئم، لأنه لا يعترف به، ولا يعالج، ولا يحاسب عليه في سوريا، لا تزال آلاف العائلات تعيش على أمل أن يعود الغائب، أو أن يعرف مصيره.
قصة عائلة دياب وفريزة، وكل من فقدوا أبناءهم، هي دعوة مفتوحة للضمير الإنساني أن يستيقظ، أن يطالب، أن لا ينسى.
لأن من اختفوا لا يزالون أحياء في ذاكرة من يحبهم، وفي كل قلب لم يتوقف عن السؤال.
لا تطلب هذه العائلات سوى شيء واحد.. أن يقال معرفة مكان ذويهم، مهما كانت موجعة، لأن الحقيقة، حتى وإن كانت موتاً، أرحم من الغياب.