إنه صراع مركب أو معقد فيه الديني والسياسي ولابد من الإضاءة على الجانب الديني في هذا الصراع لماذا الديني في هذا الصراع إنه خلال السنوات الأخيرة بدأ يتحرك دينياً بصفة جنونية من خلال وصول التيار الديني المتطرف لقيادة الكيان بعد أن كان على الهامش طيلة عدة عقود، وهل لهذه الوتيرة أثر في هذا الصراع، وهذا لا ينفي أهمية باقي الجوانب.
عند نشوء الحركة الصهيونية لم يكن الجانب الديني فيها جوهرياً بل كان متخفياً لإعطاء الكيان طابع أنه علماني إرضاء للغزب ومع الزمن وتطور الحراك السياسي تحول التيار الديني من حركة في الهامش السياسي إلى مركز القرار، وهو ما يمكن أن نسميه الصهيونية الجديدة أي الصهيونية الدينية التلمودية ومنزلة الدين في المشروع الصهيوني ومنذ التأسيس واستزراع ذلك الكيان عام 1948وحتى عام 1967 أي حرب حزيران قلبت طرق إدارة الصراع بالنسبة لإسرائيل، حيث تعزز دور التيار الديني بدعوى أن نصر 67 كان نصراً إلهياً لجهة أن الخطاب الذي كان سائداً هو إلقاء اسرائيل في البحر إلى درجة أن رئيس وزراء إسرائيل آنذاك ليفي أشكول كان يقول إنني كنت أبكي وأنا أسمع ما تردده الإذاعات العربية ؟
المرحلة الحالية : من 67 حتى الآن وهدا يمكننا من قراءة آلية الصراع في السنوات القادمة، وبالعودة لبدايات نشوء الحركة الصهيونية لابد من الإشارة إلى أن اليهودية بوصفها ديناً قد شهدت حالة خمود وسكون منذ الشتات حتى القرن الثامن عشر وقد غلب عليها ثلاثة تيارات الهالاخا أو الفقه اليهودي يعني الحياة اليهودية كطقس ديني ما الذي أفعله أولا أفعله وإلى جانب ذلك كان هناك تيار آخر مشيخاني أي الأمل في مجيء المسيح المنتظر وإلى جانب هذا التيار المشيخاني كان التيار الصوفي أو القبالي، في هذه التيارات الثلاثة انحصرالنشاط اليهودي وعلى الرغم من حلول عقر النهضة الأوروبية إلا عن اليهودية لم تتأثر به، وبقيت محافظة وتقليدية، ولكن مع بداية القرن الثامن عشر ظهرت حركة الأنوار اليهودية تماشياً وتأثراً بعصر الأنوار في أوروبا وتحديداً في إلمانيا، وهذه حركت سواكن اليهودية الربانية الفقهية التقليدية فشكلت حركةً الأنوار اليهودية تياراً إصلاحياً داخل اليهودية الربانية وقاد الحركة موشيه مندلسون الذي أراد أن يدخل نوعاً من التحديث لليهودية بأن يخرج اليهودي من الغيتو وينخرط في الحداثةً وأن يقبل أن يكون مواطناً في دولة، فالحل عند مندلسون بالنسبة لليهود أن ينسجموا مع فكرةً المواطنة وفكرة الدولة بدل الانغلاق أي المواءمة بين ديانته ومواطنته والاندماج في المجتمعات في سياق المواطنة، وهو ما تضمنه بيان بيتيسبورغ، ولعل أهم ما فيه أن فلسطين ليس بالضرورة الوطن الذي يجب الرجوع إليه وأن فكرة العودة إلى فلسطين لا معنى لها، فهذه الحركة الإصلاحية ترفض فكرة العودةً إلى فلسطين وسيقابلها على الجانب الأيمن منها نوع منً اليهودية الجديدة التي تسمى اليهودية الأرثوذكسية، ويمثلها شمشون رفاىيل هرش، وكان هيرش مناهضاً للتيار الصهيوني وعلى اليسار من الحركة الإصلاحية ظهرت الحركة الصهيونية السياسية ولكنها كانت أو على هامش الهامش في مسار ما يسمى المسألة اليهودية ـ و المشكلة اليهودية كما طرحها كارل ماركس، فنقاش ما سمي المسألة اليهودية جرى في أوساط الحركة الاشتراكية في أوروبا الشرقية التي ترى أن حل المشكلة اليهودية يتم في أوساط الطبقة العاملة، ولكن الحركة الصهيونية المسيسة رأت أن حل المسالة اليهودية يتم خارج البلدان التي يعيش فيها اليهود، وكان لحادثة الضابط اليهودي الفرنسي درايفرس وتغطية تيودور هرتزل لها، حيث رأى انطلاقاً منها عن مسألة اندماج اليهود في المحتمعات الأوروبية مسألة فاشلة، والحل يكمن في وطن يعيش فيه اليهود، وهو ما عبر عنه في كتابه دولة لليهود، والذي رأى البعض أنه ترجم خطا بالدولة اليهودية علما أنه في الألمانية (يودن شتات) دولة اليهود أو دولة لليهود، وليس دولة يهودية أي مكان يعيش فيه اليهود وليس بالضرورة أن يكون هذا الوطن هو فلسطين كأن يكون الأرجنتين أو ليبيا أو أوغندا تماماً كما كان يطالب محمد علي جناح في الهند دولة للمسلمين وليس دولة إسلامية فلم يكن عند هرتزل تمسك خاص بفلسطين.
وبالتنقيب في جذر الفكرة نرى أن يهودا القلعي أثر في تيودور هرتزل، حيث كان أول من كتب عن ضرورة الاستيطان في فلسطين، وكان ذلك في نهاية النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبين قلعي أن هذا المشروع يجب أن يمول منُ الراًسمال اليهودي العالمي وورد ذلك في كتابه (اسمعي يا اسرائيل )وهو أول من كرس مفهوم التوبة عند اليهود أو التوبة العامة التي تعني الانتقال إلى فلسطين بشكل جماعي، فاليهودية التقليدية بتياراتها الثلاثة التي أشرنا إليها سابقاً لا تفضل العودة إلى فلسطين فلابد وفقها من تهيئة المناخ لعودة وظهور المسيح المنتظر والذي سيأتي في آخر الزمان.
وأما لماذا كانت اليهودية التقليدية ترفض فكرة العودة إلى فلسطين والتي ستدخل في خصام مع الحركة الصهيونية وتيودور هرتزل، وثمة ثلاثة أسباب لذلك، فهم يرون أن اليهود تاريخياً لقوا هزائم في كل ثوراتهم ضد خصومهم ما شكل وعياً سلبياً عند جمهور اليهود من الدعوات للعودة إلى فلسطين، أما الفكرة الثانية فهي تأثير موشيه بن ميمون الذي بعث برسالة ليهود اليمن تعرض فيها ورفض العودة الجماعية لفلسطين، أما السبب الثالث من النقاش فهو يعكس ما سمي نص المواثيق الثلاثةً ويستند نص موجود في التلمود يتعلق بحق الزوج نقل زوجته إلى (فاثلستين).
لقد رفضت أغلبية اليهودية التقليدية الحريديةً المشروع الصهيوني، ولكنها مع ذلك حضرت مؤتمر بازل في سويسرا ولاسيما حركة مزراحي التي تأسست عام 1902 واستمرت حتى 1951كما حضر المؤتمر ممثلو الصهيونية المسيحية ولولا الصهيونية التي لولاها لما كان للمشروع الصهيوني أن ينجح، ولعل دور القس المسيحي وليام هشلر وهو نمساوي ودبلوماسي عمل في السفارة النمساوية في بريطانيا الذي كان يعتبر هرتزل المسيح الذي ينتظره الصهاينة، حيث وضع أمامه خريطة فلسطين وبها موقع الهيكل فأصبح المشروع الصهيوني بعد مؤتمر بال هو الحل لما سمي المسألة اليهودية.
والحال: أصبحنا أمام صهيونية دينية يمثلها الربي يهودا كوك أو الحاخام كوك هو أميركي والصهيونية السياسية التي يمثلها تيودور هرتزل أي علمانيين ودينيين أخذاً في الاعتبار أن الدينيين قبلوا التعامل مع اليهودية العلمانية لاعتقادهم أنها ستسرع في خلاص اليهود من أوضاعهم وشتاتهم، وبالتالي عمل الربي يهودا كوك على إفراغ الحركة الصهيونية من مضمونها العلماني وحشوها بمضمون ديني، وهو ما حصل لاحقاً من هنا نرى أن ما يسمى الصهيونية الجديدة أي الصهيونية التلمودية المتشددة والمتطرفة التي بدأت تبرز بعد حرب 1967
ومع قيام الدولة عام 1948 حصل توافق أو تنازلات متبادلةً بين الصهيونية الدينية والصهيونية العلمانية أو ما سمي الوضع القائم (ستاتيكو) فيطلق يد الدينيين في التعليم الديني والشريعة دون التدخل في السياسة، وقد سمي ذلك التوافق بين الديني والعلماني البغاء المزدوج.
والجدير ذكره هو الإشارة إلى أنه قبل قيام الكيان الإسرائيلي عام 1948 كانت (اسرائيل العلمية)بدأت عام 1925 بإشادة الجامعة العبرية ومعهد التخنيون ثم استمر البناء العلمي والعسكري بعد التأسيس متمثلاً ببناء المفاعل النووي في ديمونا وامتلاك القنبلة النووية كضمانة أمنية وردعية للكيان.
وفي ظل قراءة لتطور الحياة السياسية في الكيان الصهيوني يشار إلى أنه بعد نكسة 67 19تغير كل شيء في اسرائيل، فمنزلة الدين في الدولة وطبيعة الصراع العربي الصهيوني إلى صراع اسرائيلي فلسطيني، فما الذي حدث في عام 1967 ؟ لم يصدق الجمهور اليهودي والساسة الصهاينة ما حدث حتى إن ليفي أشكول رئيس الوزراء أنذاك كتب في مذكراته يقول :كنت أبكي عندما استمع التهديدات العربية لاسرائيل، والذي حدث أن كل هذا الخوف قد اختفى من “اسرائيل” بفعل نجاحهم في تحقيق انتصار عسكري على ثلاث دول عربية وتوحيد ما سمي القدس باحتلال الضفة الغربية وسيناء والجولان، فنظر إليه في اسرائيل على أنه معجزة إلهية ونصر إلهي، فكما اعتبر الإسلاميون أن الهزيمة عقوبة إلهية للحركة القومية العربية وبداية ظهور الإسلام السياسي، أما في اسرائيل فنظر إليها بالعكس بمعنى أن الانتصار تم لأن (إله اسرائيل)قد تدخل لنصرة شعب اسرائيل، وهذا التصور شمل كل المستويات في اسرائيل بمن فيهم العلمانيون، وأصبحوا يتحدثون عن صحوة دينية أو الحلم الديني، وتشكل تياراً عارماً وعودة إلى التوبة والعودة لأحضان اليهودية أي الأصل، وهي حركة استمرت إلى يومنا هذا في وتيرة مرتفعة، والدليل صعود التيار الديني الحسيدي المتطرف للحكم في اسرائيل، وهنا نشير إلى أنه بعد هزيمة تشرين انهار التيار السياسي العلماني في اسرائيل، وبدأ صعود التيار الديني المتطرف، وظهور حزب حيروت القومي المتطرف، فما حصل هو تحالف ما بين يمين قومي متطرف ينتسب إلى جابوتنسكي ويمين ديني متطرف ينتسب للربي يهودا كوك وابنه والحاخام المقتول مائير كاهانا تماماً كما هو حاصل اليوم من تحالف بين نتنياهو وبن غفير أو ما يسمونها خلطة مولوتوف أي خلطة ملتهبة تتحكم في الحكم اليوم لذلك لا يمكن أن نفهم ما يجري في اسرائيل إن لم نقتنع أن ثمة تحالفاً قائماً اليوم بين التيار القومي والديني الأشد تطرفاً؟
هذا التيار أو التحالف يرى أنه يجب استيطان كل أرض اسرائيل التوراتية، فلا وجود ولا مجال لما يسمى حل الدولتين، وأصبح الحديث عندهم استيطان يهودا والسامرة أي كامل الضفة الغربية وثلاثية التوراة والأرض والشعب مع اشتغال مجموعات من المتدينين تجلب العلمانيين إلى الحظيرة الدينية ؟
جابوتنسكي هذا مؤلف كتاب الجدار الحديدي يقول:لو كنت فلسطينياً لرفضت المشروع الصهيوني، والفلسطينيون على حق في رفض المشروع الصهيوني لأنه يقوم على افتكاك أرض لا يعتبرونها لنا ولا دخل للفلسطينيين، فما حدث لليهود في أوروبا، ولكن العرب سيقاومون فعلينا أن تقتل لديهم روح المقاومة والرغبة في المقاومة، وهي فكرة أساسية في الجدار الحديدي، فعلى العربي والفلسطيني ألا يفكر البتة في مقاومة المشروع الصهيوني من خلال استخدام حجم من القوة المفرطة كأن تستخدم مثلاً رشاشاً في مواجهة ذبابة بحيث يجعل الفلسطيني في المستقبل لا يفكر في المقاومة نظراً لشعوره بفائض قوة الاسرائيلي مقارنة بقوته، ولذلك أنشأ جابوتنسكي ما سمي الشبيبة اليهودية المشهورة بعنفها.
واستطراداً لابد من الحديث عن مسألتين لهما أهمية في هذه الفترة أولهما غلاة الاستيطان، ومنهم الحاخام مائير كاهانا المقتول وحركته مستمرة والمسألة الأخرى كيف تنظر الصهيونية الدينية لموضوع القدس وبناء الهيكل الثالث، وهنا نبين أنه إن استمر هذا المسار، وهذا التحالف فإن هدم المسجد الأقصى هو بالنسبة لهم ضرورة وواجب توراتي حتى لا نقول شيئاً آخر، وبالتالي خلق شعور عند العرب أن ذلك الأمر سيتم ويتواصل لضرورو حسابية توراتية في طل سطوة الصهيونية الدينية على كامل المشهد في اسرائيل.
إن أهم حدث حصل خلال العقود الأربعة الماضية إلى جانب حرب لبنان ومعاهدتي أوسلو ووادي عربه هو اغتيال اسحق رابين رئيس وزراء اسرائيل، والذي يجب التوقف عنده كثيراً لدلالاته لأنه حدث بسبب اتفاق أوسلو عام 1993وجرى الاغتيال بعد سنتين ورابين هو من حزب العمل اليساري العلماني ونادراً ما يلبس الكبةً اليهودية وعلى الرغم من إنجازاته العسكرية وخدمته لاسرائيل سياسياً إلا أن توقيعه لاتفاقات أوسلو خلفت هستيريا دينية داخل الجماعات اليهودية ما جعل مقتل رابين يتم بفتاوى دينية من غلاة الاستيطان، وعلى الرغم من أن الذي اغتال رابين وهو ايغال عامير وهو يشتغل مع الشاباك وكان مكلفاً باختراق الجماعات الدينية لحسابها إلا أنه استقطب منها وتأثر بفكرها وأقدم على اغتيال رابين بفتاوى دينية (دين روديف)وهو حكم ورد في التوراة لموشيه بن ميمون يتحدث فيه عن حكم من يغطي جزءاً من أرض اسرائيل للأغيار، وهذا الاغتيال أحدث صدمة في الوعي اليهودي، فمن النادر في التاريخ أن يقدم يهودي على قتل يهودي مهما كانت الأسباب، ولكن مائير كاهانا المقتول قتل ولم تقتل أفكاره لأن حركة كاهانا استمرت حيث عبر عن جوهر فكر الصهيونية الاستيطانية الشرسة، فهو يتحدث إلى كل نواب الكنيست بنص من سفر التكوين: خد ابنك وحيدك اسحاق وأصعده محرقة على أحد الجبال، فبكر إبراهيم وشد على حماره وأخذ اثنين من غلمانه واسحق ابنه وشقق حطبا لمحرقة، وذهب إلى الموقع الذي قال له الله وبعد يومين أبقر إبراهيم الموقع من بعيد، فقال إبراهيم لغلاميه اجلسا أنتما هاهنا مع الحمار أما أنا وابني سنذهب ثم نرجع إليكما وبعدها رجع وقال للغلامين هل ترون ما أرى قالوا لا بمعنى إنكم يا أعضاء الكنيست لا ترون ما أرى من خطر ومحرقة، فأنتم كالغلامين والحمار لا ترون شيئا أنا أرى ما سيصيب اسرائيل في المستقبل كما كان إبراهيم يرى المكان الذي سيذبح فيه إبراهيم ابنه اسحق أنتم يا أعضاء الكنيست كلكم كالحمير الذي لا ترونه هو لا يوجد عربي جيد العربي الجيد هو المقتول أو الملقى به خارج اسرائيل لذلك ألف كتاب (يجب أن يرحلوا)هذا الفلسطيني مهما قدمنا له سيبقى معادياً لاسرائيل لأنه في اليوم الذي تحتفلون به بعيد الاستقلال هو يبكي بذكراها كنكبة، وفي اليوم الذي تنشدون فيه نشيد الأمل هو يغني نشيد موطني.