الملحق الثقافي- غازي كاسوح:
لاشك أن الفن ملازم لكل زمان ومكان،لأن معظم العصور أخذت وشهدت تفتحاً فنياً وفق مقادير مختلفة، فالإنسان الفنان هو الذي يبدع، فما القوى التي تدفع به إلى الإبداع وتحرضه على الاختراع أهو العقل أم الحساسية أم الشعور ؟.
سؤال شغل جدالات كثيرة منذ بداية عصر النهضة إلى أن جاء الفيلسوف -كانط- وطرح الجمالية حلاً لهذا الجدال، والذي أعيد بحثه من جديد بأشكال مختلفة في القرن العشرين.
ففي القرن السادس عشر اعترف بالفنان كمبدع عبقري وصاحب موهبة، أما في الدين فوصف الفنان بأنه منفذ إرادة إلهية،وهو أداة يحركها الإلهام لا قدره، وله على التحكم بها ولكن هذا التقييد لايحرك بالمسألة شيء.
ليس النحت والتصوير ممارستين تستندان إلى مهارة وخبرة الحرفي، وإنما تتحولان إلى نشاط ثقافي يضع العمل في ملكات ومؤهلات تسمح للفنان بتخطي رتبته كحرفي بسيط كي يوافق النهضوي ذي النزعة، وهذا بالضرورة يعني أن النحات والمصور والمعماري لهم فعل خلاق يجعلهم يخطون بعلامات التخليد.
فالإبداع تجسيد فعلي لقوة الفنان في الخلق القادر على توليد أشياء مصنوعة غير مسبوقة، والتي لايقوم بصنعها على تقليد أشياء موجودة، حيث طالب الكثيرين في عصر النهضة بأن يكون للفنان هذه القدرة بعيداً عن مضاهاة القدرة الإلهية، لأن الفنان المبدع لاينتج من لاشيء وإنما نتيجة لتراكم خبرات محصلة في سبل اختصاصية متعددة لها طابع علمي.
وتأكيد ذلك بمقولة المصور والنحات والموسيقي الإيطالي ليون باتيستا ألبرتي، والذي له الفضل في تعريف قواعد المنظور الجوي يقول: إن أفضل المبدعين من تعلم التعرف على حواف المساحة ومميزاتها أي دراسة الرياضيات لمن يعكف على النحت والتصوير.
يقودنا هذا لاستذكار القامة الكبيرة الفيلسوف والمعماري والمهندس وعالم الرياضيات والمصور والنحات في الوقت نفسه الإيطالي ليوناردو دافنشي الذي حل ضيفاً في قصر الملك فرانسوا الأول في فرنسا واعتبر من الأسياد، أو عندما هوت ريشة الفنان تيتيان ينحني الامبراطور شارلكان لالتقاطها بذلك اجتازت سمعة المصور الحواجز في التقرب من البلاط الملكي في أوروبا.
تبقى العبقرية عند الفنان من دون شك موهبة من الله ، حيث تصبح شخصية الفنان في القرن الخامس عشر استثنائية ، لذلك اشترط عليه منذ ذلك الوقت أن يضع الفنان توقيعه على العمل المنجز من قبله وهو ما يجعلنا نتعرف فيما بعد على أصحاب أعمال النحت والتصوير لأن الفنانين لهم القدرة على الخلق بحرية وعدم الخضوع الى قوانين أخرى غير التي تمليها عليهم عبقرياتهم الخاصة ،وبذلك تغيرت مكانة الحرفي الى الاعتراف به كفنان مبدع ولكن هذا الاعتراف ليس كافيا لإلحاق صفة الذاتوية به .
هذا النقاش الفلسفي الذي افتتحه ديكارت في مطلع القرن السابع عشر واشتمل على تأكيد فكرة ذات مستقلة قادرة على التفكير في العالم بوصفها ذات مفكرة وهي تشكل احدى اللحظات الحاسمة في تكوين الجمالية الحديثة .
ان الحديث عن الفرد الخلاق وعن مهارته وقدرته على التوليد والسهولة في عمله هذه الصفات تتقيد بثلاث محددات تقليد الطبيعة واحترام قوانين المنظور وتكريم الله من الفنان ،اذا النهضة تظهر انتصار النزعة الانسانية بوصفه فنانا .
فالجمال مشروط بوجود معارف علمية ومعرفة عقلية وهو يقود الى قبول المخيلة والحدس والانفعال والرغبة وغيرها من المؤثرات بوصفها ملكات خلاقة وعوامل مؤدية للإبداع ، لذلك فان فكرة الذات الخلاقة لن تفرض نفسها الا مع تولد القناعة بالطابع المتكامل للعقل مع الحساسية ووجودهما ضمن اطار الابداع .
لذلك الاعتراف بالفنان تأكيد على فكرة الابداع واستقلال الفن والمبدع والتناغم بين العقل والحساسية ،اي من يمتلك مقادير متساوية من العقل والحساسية يكون سيد نفسه ومتوازن جماليا ،والتفكير الجمالي يعيد طرح المسائل بين النطاق الجمالي والنطاق العلمي والنطاق الأخلاقي حيث ترسم النهضة الطريق المؤدية الى تكوين هذا النهج الدراسي والتي تشهد حلا لهذه المسائل الثلاثة من خلال المحاكاة .
ان المحاكاة كانت تشكل المبدأ الجمالي الغالب في النهضة حيث لم يكن للخيار بين العقل والحساسية معنى وكانت المطالبة عند دافنشي والبرتي لصالح الفنان ومكانته . لانهم قاموا بعمل ثقافي أكثر رفعة من الحرفيين المقتصر على المهام اليدوية وبقيت تلك المحاكاة الى ان جاء الفنان غيوتو في التاسع عشر وقال:يتقيد الفنانون بعلاقة مع الطبيعة بل يتبعونها انها مثالهم ودائما يستخرجون من عناصرها افضلها واجملها لكي يتفننوا في استنساخها او نقلها .
العدد 1166 – 7-11-2023