كلما ذهبتُ إلى قريتنا النائية في أعالي الجبال الساحلية أزدادُ غبناً من وضع العديد من الشباب الذين تغدر بهم السنون ويتقدمون بالعمر شيئاً فشيئاً ،وهم بحالة انتظار وترقّب كي يعثروا يوماً على فرصة عمل تخفف عنهم أعباء هذه الحياة، وتساهم في تجاوز مصاعبها- ولكن عبثاً- فالحكومة تُعلن حالة شبه الإغلاق لأبواب التوظيف ليس في القرى فقط وإنما في مختلف مدننا طبعاً – والقطاع الخاص يبدو مكتفياً بما لديه من العاملين، في حين لاتزال البنوك ترفع من سقف مطالبها لضمانات القروض التي تبدو عند الكثير من الشبّان ضماناتٍ تعجيزية لا يمكن أن تُطال، وكان العديد منهم يمكن أن يُقيموا مشاريع خاصة لهم من تلك الصغيرة والمتوسطة التي لم نعد نعرف كيف نتصالح معها، ولا كيف ندفع بها باتجاه التفعيل الصحيح المجدي رغم اتفاق الجميع بأن تلك المشاريع هي السبيل الأفضل الذي يمكنه أن يحقق انتصاراً ساحقاً على البطالة الآخذة نحو المزيد من التراكم المخيف، ويمكنه أيضاً إنعاش الاقتصاد السوري وإنقاذه من الحالة المتعثرة إلى حدود التردّي، ليغدو اقتصاداً فعالاً قادراً على امتصاص تلك الآثار القاسية الناجمة عن مختلف الظروف الطبيعية منها والشاذة، وهذا يعني بالنهاية تحسين في مستوى المعيشة عبر زيادة الدخل لدى الأفراد، وترسيخ مبدأ المنافسة الإيجابية التي من شأنها تخفيض الأسعار ولجمِ جموح التضخم.
بات الإيمان بالمشروعات الصغيرة والمتوسطة على مستوى العالم بأنها هـي الوسيلة الأساسية لتطوير اقتصاديات هذا القرن، وهي القادرة على خلق علاقة قوية بيـن الأمـل والرخـاء والسـلام والحـبّ.
ويترسخ المفهوم العالمي اليوم بأن المشروعات المتناهية الصغر والصغيرة والمتوسـطة تمثل الطريقة الصحيحة لدعم تحقيق مستويات مرتفعة من التنميـة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، مما يوفـر الظروف الملائمة لجميع الشعوب للعيش فـي سعة وكرامــة.
ففي الصين – مثلاً – وهي ثاني أكبر اقتصاد في العالم ويمتلك أكبر حجم تجارة على الكرة الأرضية حيث تسهم الصين بأكثر من 30% من نمو الاقتصاد العالمي، لم تتمكن من الوصول إلى هذا المستوى الرفيع لولا المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي استطاعت من خلالها وعبر السنوات القليلة الماضية من انتشال نحو 70 مليون شخص من دائرة الفقر – حسب بيانات حكومية صينية أطلقها السيد فو وينبياو المدير العام لمركز بحوث التنمية بإدارة تنظيم الأسواق بالصين.. خلال المجلس الدولي للمشروعات الصغيرة والمتوسطة في عام 2018 – وبيّن أن معدل الفقر بين السكان قد انخفض من نحو 10% إلى أقل من 4% مؤكداً أنه لم يكن بالإمكان تحقيق مثل هذه الإنجازات لولا الإسهامات الكبيرة التي قدّمتها العديد من المشروعات المتناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة، ففي الوقت الحالي تمثل هذه المشروعات ( 99,7 % ) من المشروعات في الصين وهي توفر 80 %من الوظائف في المناطــق الحضرية، و90 %من الوظائف المتوافرة حديثا. وتوفـر تلـك المشـروعات منتجـات نهائيـة وخدمـات تسـاوي 60 %مـن إجمالي الناتـج المحلي، وتمتلـك 65 %مـن بـراءات الاختراع الخاصة بالابتـكارات، وتقـوم بتقديـم 75 %مـن الابتـكارات التكنولوجيـة فـي المشروعات، مع تطوير أكثر من 80 %من المنتجات الجديدة.
هذا في الصين، وهناك الكثير من الأمثلة التي لا تدع أي مجال للشك بأن المشاريع الصغيرة والمتوسطة هي الحل المنقذ لما نحن به وعليه، والتردد الحكومي حيال هذه المشاريع وعدم العناية بها وبتفعيلها بشكل حقيقي وكما يجب لن يجدي نفعاً، فلا بد من التركيز الساخن على هذه المشاريع وإطلاقها كما يجب أن تُطلق، عبر الدعم الحقيقي لها على مختلف الأصعدة، والتخلّي أولاً عن مصاعب التمويل والتخلّص من هذه العقدة المستمرة بقتل الآمال وبالمزيد من الاحباطات المانعة لهذه المشاريع التي تشكل هي بحد ذاتها ضمانات ذهبية للبنوك لاسترجاع قروضها أكثر بكثير من أي عقار أو ضمان تعجيزي آخر.