الملحق الثقافي- رفاه الدروبي:
ترك لنا أجدادنا إرثاً ثقافياً حضارياً يُعبِّرعن الأصالة والانتماء. إنَّه هويتنا نتَّكئ عليها لنعبر إلى المستقبل؛ لكن في المشهد الثقافي نقف بين مصطلحين أو جيلين: جيل الثقافة التقليدية وجيل الحداثة. تُرى أيّهما أكثرعمقاً وتأثيراً وتجذُّراً في الفكر والمجتمع، ولماذا؟
صراع أجيال وحضارات
المخرج حسن العكلا رأى بأنَّه ليس منطقياً ولا مقبولاً من حيث المبدأ، التفصيل عضوياً في الجوهر: اصطلاحاً ودلالةً ومعنى، بين جيلين متقابلين يسيران باتجاهين متعارضين، أوأجيال بعينها متعددة الاتجاهات، متعاكسة متصارعة متناحرة مختلفة في الأهداف والغايات وفق تشكيل الرأي الجمعي والفردي كمصطلح يعني صراع الأجيال والحضارات مع أنَّ منطق الصراع لا يستقيم وجوباً بل يتنافى كلياً مع دواعي التحضُّر والازدهار والسلام، مُنوِّهاً إلى أنَّ المشهد الثقافي والثقافة النوعية والجاد منها على نحو خاص ومهما كانت الأساليب الكلاسيكية منها والحداثوية والاختلافات عميقة بين ثقافة كل منهما فإنّهما يتفقان أو يختلفان في قضية توظيف الثقافة المساهمة في تشكيل الرأي العام سواء أكان بالاتجاه المطروق أو ذاك.
وأشار المخرج العكلا إلى أنَّ الثقافة في أساس وظيفتها وسرّ وجودها يندرج الحال مع أيِّ مشهد ثقافي مهما كان جنسه، يتجه حصراً نحو غاياته القصوى أولاً وأخيراً فعل إنساني متحضر ووسيلة إدراكية عالية تسير مع الإنسان، وتيسِّرأمره وتمكِّنه من فهم نفسه والحياة والوجود وتجعلهما أفضل بنورالعقل، وضياء المعرفة من خلال رؤية كونية واعية للعالم بكلّ ما فيه من إعجاز في الخلق الأصل، ومنه الأصالة، والنوع، والموافق، والمخالف، والمفارق، والمختلف، مبيِّناً بأنَّه بناء عليه لا نستطيع موضوعياً أن نتفق في الرأي حول الثقافة: أفراداً وجماعاتٍ، تحت أيِّ مسوّغ معرفي، أو تاريخي مشروع. إنَّها تؤسِّس لرؤية نفسية أخلاقية واحدة عاقلة للعالم المؤسس بالإطلاق على مبدأ التنوُّع والاختلاف في كلِّ تفاصيله الوجودية والوجدانية، بدءاً من البديهي الواضح والعياني المباشر المفهوم عبر المجهول، وصولاً إلى الأكثر تعقيداً وتركيباً طي الغيب، ويحتاج إدراك كنهه إلى تجارب كبرى ومكابدات عقلية مغامرة فذة تفتح مغاليقه وتُفكِّك رموزه، واكتشافه.
كما تابع متسائلاً: كيف لنا أن نبسِّط المسألة المعقَّدة نفسها غير المستحيلة، الشائكة، المحفوفة بالمخاطر وقلق المصير الإنساني على امتداد الزمان والمكان وحركة التاريخ الأكثر التباساً وغموضاً ونضع كلَّ ما ورد ضمن قوسين لمصطلحين أو أكثر يُحدِّدان ثقلاً كبيراً من التراكم الثقافي والإرث المعرفي لتجربة إنسانية أفرزت كمَّاً مهولاً من الاتجاهات الفكرية والمذاهب العقائدية والتيارات الثقافيةالمتعددة في الأدب والفن وعلم الإنسان والاجتماع بين الأجناس البشرية أجيال الناس، مُبيِّناً بأنَّه لمقاربة الفهم في خصوصها يستحسن القول: إنَّ أيَّ حراك في المشهد الثقافي على تنوعه الكبير لا يضع ما نسميه نحن اصطلاحاً فن التأرخة كمؤثر استراتيجي بعيد المدى في مجمل طرائق التفكير الإنساني وعلى أساس علمي جدلي في محاكاة الواقع الراهن باعتباره قابلاً للتغيير إلى الأفضل بقياس الواقعية المستقبلية ترشد الاختلاف بمنطق التوافق لا بدَّ سيجد نفسه سجيناً في دائرةٍ من العقم واللا جدوى كمن ينتج بنفسه ولنفسه المزيد من التخلف والانهيار في كلِّ شيء.
النسيج المجتمعي
بدورها الشاعرة سهير نذير زغبور بيَّنت بأنَّ أيَّ تتداخل في النسيج المجتمعي والأمزجة والأهواء والاتجاهات والميول لحقب تتناسب مع كلّ جيل آخذ بعين الموضوعية، وأن تتجمع وتجتمع عدة أجيال في برزخ واحد لتفرز نتاج المجتمع من أدب وفن وتقاليد في توجهها لكلِّ جيل عذره إذ لا نستطيع أن نجبر رجلاً ستينياً أن يستمع لأنغام أغنية شبابية لا تمّتُّ مفرداتها لجيله بصلة على سبيل المثال، والأمر ينسحب نسبياً على العادات والتقاليد والثقافة كونها لا تختلف عن غيرها في مسيرة الحياة منذ نشأتها وحتى الآن، لكنَّها تتميز بتأثيرها المديد عبر الزمن منذ أن كانوا يتناقلونها رواية وحتى عصر التدوين إلى عصرنا الحالي عصر الشابكة،
طارحةً سؤالاً ينبثق من معطيات طرحها: هل جيل الثقافة التقليدية أم جيل الحداثة أكثر تأثيراً في الفكر والمجتمع؟ مُبيِّنةً بأنَّه لايمكن أن تكون الإجابات موحَّدة فلكلٍّ منَّا رأيه وذائقته وتفكيره وقناعاته، فجيل الحداثة يرى أنَّ الثقافة الحديثة أقرب إلى روحه فيتناولونها سريعة كوجبة تسعف عدم صبرهم على تلقفها كما كان يفعل من سبقه خاصة في عصر الإنترنت بات ناقلاً ديناميكياً للثقافات والناس يجلسون وراء الشاشة في منازلهم حتى غدا العالم قرية صغيرة كما يقال.
كما أوضحت بأنَّه ما جعلهم يستسيغون الرشاقة والليونة في الحصول عليها؛ لكن هل يا ترى ستثبت في دواخلهم كالثقافة المعاشة لمن سبقهم أم سينسونها بذات السرعة الحاصلين عليها بها؟!! إنَّه ماينقلنا إلى التجول في باحة فهم الشريحة الأسبق للجيل الحالي وإنَّهم يتوارثون الثقافة بكلِّ شغف المسلسلات ويحيطون بجوانبها كافةً. يتجذَّرون في تربتها كما تتجذَّر في أعماقهم، وَسَلْ من شئت سيخبرك عن تواريخ أو حدود جغرافية أو روايات أو تقاليد عالمية أو علوم إنسانية تخزَّنت في ذاكرته لتنسحب إلى أعمق طبقات المجتمع كبئرارتوازية؛ ومع الانقسام المجتمعي في فهم الثقافة والأخذ بها حالة صحية وضرورية لأنَّ لكلِّ جيل فكرة سيتمسَّك بها ويتعمَّق فيها بما يناسب روحه كمزج الماء بالزيت دون أن يختلطا لكنَّهما يُشكِّلان مزيجاً إنه المجتمع.
الثقافة التقليدية
ثم قدَّم الشاعر صقر عليشي رأيه قائلاً: إنَّه بحكم العادة والتقاليد الضاربة في عمق التاريخ سارت على النمط نفسه أجيال وأجيال، لذا تظل للثقافة التقليدية سيطرتها وتحكمها في حياة مجتمعنا: سلوكاً وأفكاراً مهيمنة لا يتيسَّر إلا لقلة محدودة التفلُّت من إسارها، والهالة القدسيَّة المحاطة بها من ساعدتهم ظروفٌ خاصةٌ وميزاتٌ شخصيَّة وكدٌّ وحبُّ اطلاع، مُوضِّحاً أنَّه سيمرُّ زمن طويل قبل أن تستطيع الثقافة الحديثة أخذ مكان لها كفكر حر لا تحكمه إلا الحقائق والمعرفة بحيث تكون لها الغلبة والمساحة الأكبر في سلوكنا واهتماماتنا، مزيحةً الأوهام والخرافات والغشاوات عن العيون والعقول والمعركة بين الثقافتين في كلّ صنوف المعرفة والإبداع في الشعر والنثر. في الشكل والمضمون، وكانت دائماً ولادة الحديث عسيرة، وكم من «غاليليه» أحرقت البشرية قبل الاقتناع بكروية الأرض ودورانها حول الشمس.
ثورية وتجديدية
بيَّن التشكيلي عمار الشوا بأنَّه ليس هناك تحديد وتأطير ضمن مصطلحات. ويعتقد بأنَّ الثقافة والمعرفة دائماً ثورية وتجديدية في وقتها وفي كلّ وقت. ما كان تقليدياً حسب توصيف الزمن الحالي يعتبر خطوات مضيئة في وقته. قادتنا لنكون في الزمن الراهن متواصلين معه بثقة يمتلكها من قرأ وجرّب جيداً؛ ولا تستطيع أدوات الزمن أن تأخذه بعيداً عن التنوير والمعرفة، لافتاً إلى ضرورة الانتباه للتمسُّك بكلِّ ما هو سوري من ثقافة وتاريخ وفلكلور وطبيعة لتبقى هويتنا سورية، ولا بأس في استخدام أدوات الزمن الحالي لنتفوَّق في كلِّ المجالات وأهمّها الإبداع.
العدد 1171 – 12 -12 -2023