بعد أن تقاعدنا.. وتمّت إحالتنا على المعاش- جعلهُ الله معاشاً – أدركنا على حين غرّة.. وعلى نحوٍ ساخن كم نحن بحاجة لأن نصل إلى هذه المرحلة من الحياة من دون أن نُرمى بمثل هذا الفراغ اليابس والمُقفر.. بل والقاتل أيضاً، حيث لا نجد فيه- بشكلٍ عام- أي ملاذٍ للتخفيف من حدّته، وكأننا نقف على محطة انتظار الموت فقط.
صحيحٌ أننا كلنا سنموت.. ولا أحد يعرف كيف ولا أين..؟ ولكن على الأقل فإن غير المتقاعدين يجدون ما يُشغلهم ويملأ فراغهم، حتى أن الشباب العاطلين عن العمل بإمكانهم أن يملؤوا- ولو جزءاً من فراغهم- بالقدرة على الحركة، وبأنشطة معينة سواء كانت بجدوى أم بلا جدوى، ولكنه يبقى على قيد الأمل والطموح ومفعماً بتحقيق ذلك.. كما أنه يستطيع أن يعشق.. وقد يحب صبية جميلة تُشغله وتملي عليه حياته شوقاً وغراماً وسعادة، أما المتقاعد فلم تعد قدراته الحركيّة تساعده على القيام بأي نشاط، ولم يعد قادراً على عشق الصبايا.. فقلبه لم يعد ينبض بتلك النبضات الساخنة اللذيذة.. وجلافتهُ لم تعد باستطاعتها تذوّق الشهوات، وإن حاول تسخين نبضاته وتصنّع ذلك التذوّق، فإنه لا يجد أي جميلة من الجميلات تُعيره أي اهتمام بعد أن فعل به الزمان ما فعل وصار ثقيل الحركة، وعميق الأخاديد على وجهه وجبهته، وأبيض الرأس بعد سوادٍ مديد.
ولكن على الرغم من العدد المتزايد لشريحة المتقاعدين وكبار السن في المجتمع، فإننا لا نجد أي جهة حكومية تتبنى ولا تحاول أن تتبنى أوضاعهم بنشاطٍ معيّن، ولا حتى بفكرة يمكن أن تخفف عنهم وتخرجهم من هذا الواقع المؤلم، وتنتشلهم ولو نصف انتشال من صحراء حياتهم المرميّين بها بكل إهمال ولا مبالاة، فلا حكومة تكترث بهم، ولا وزارة شؤون اجتماعية تُقيم لهم شأناً من تلك الشؤون، ولا وزارة مالية تنصفهم وتُعيد لهم استحقاقهم المالي الذي اشتركوا به في مؤسسات الضمان الاجتماعي طوال سني حياتهم العملية على مدى عقود، وهم يدفعون الأموال عندما كانت الأموال تحكي قيماً شرائية عالية، ويعيدون لنا اليوم فتاتاً منها، فلو خبأنا تلك الأموال واكتنزناها ذهباً وفضة، أو أي وسيلة اكتناز، لكنّا اغتنينا في هذه الأيام، ولعلّنا كنا وجدنا ما يشغلنا، فما كنا ندفعه في الشهر لا نستردّه الآن في السنة ولا في السنتين من حيث القيمة، فالمتقاعدون يعيشون فعلاً حالة من الظلم الشديد، وقد تعثّرت الحكومات المتعاقبة بترميمه بالرغم من قدرتها على ذلك، ولكنها فشلت حتى على مستوى إنجاز التأمين الصحي لهم..!.
ورغم هذا الإهمال والظلم الفاقع كله بحق المتقاعدين فإن وزارات أخرى عديدة من مصلحتها أن تدفع باتجاه العناية بهم، إذ يمكن استثمار الكثيرين منهم، لأن المتقاعد اليوم ليس كالمتقاعد أيام زمان، فأغلب المتقاعدين حالياً يمتلكون الكثير من العلوم والخبرات وهم قادرون على المزيد من الإبداع في مختلف الأمور الحياتية اقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً وخدمياً، ولكن كيف ذلك والواحد منهم منهمكٌ بجبال الملل والضجر وآلام المرض، وبذلك الفراغ القاتل الذي لا يجد له حداً..؟.
في حين أن الحكومة يمكنها أن تلتفت إلى هذا الجانب، وتضع في خططها إقامة نوادٍ وهيئات ومجمعات خاصة بالمتقاعدين تحفزهم على الانشغال وقتل الفراغ، وعلى المساهمة بأفكارهم وخبراتهم ليكونوا سنداً لها وللمجتمع ككل، وهذا سيكون بالتأكيد أفضل بكثير من تلك الخطط الواهية التي نسمع هديرها بلا طحين..!.