ثورة أون لاين-بقلم رئيس التحرير عـــلي قــاســــــم:
لم توقف حكومة أردوغان مشاهد اللعب بالنار المتدحرجة في المنطقة، سواء تلك المتعلقة بتأجيج الحضور الإرهابي ودعمه واحتضانه، أم المرتبطة أساساً بمعادلات التحالف الأميركي، وهي لا تنفي ذلك، كما أنها لا تجد غضاضة في الصعود التدريجي على مسرح الأحداث، ولو كان من البوابة الخلفية وبالتسلل.
في سياق الفهم الحقيقي لكثير مما هو متداول فوق الطاولة تحاول حكومة أردوغان أن تخفي الأدلة على الاتجاهات التي تحكم عوامل ومعطيات الدور التركي داخل تركيبة التحالفات، أو في سياق الوظيفة الأطلسية القائمة على تخوم المنطقة وتداعياتها، حيث كانت تركيا دائماً بيدق حراك عسكري أو تلويح بعصا الأطلسي كجزء من توليفة غربية، اقتضت في كثير من الأحيان تعديل إحداثيات المهمة وتراكيبها العضوية.
اليوم.. لا يأخذ الفارق الحقيقي بُعده من الاختلافات القائمة في بعض التفاصيل الكبرى، بقدر ما هو ناتج عن متغيرات طالت المهمة التركية، وتحديداً في ظل حكومة غالت في التجنّي على المنطقة بدولها وشعوبها ومصالح أبنائها، وعانت على طول خطوط التداخل في أزمات المنطقة من أمراض وبائية ناتجة عن قصور في إدراك الاختلاف بين يقظة الأطماع وأحلام العودة إلى القاطرة العثمانية، وبين وقائع تجاوزت التركة الثقيلة التي أسهمت في ترويض الهوية، لتكون على مقاس الحسابات الضيقة لأحزمة التبعية والدور الوظيفي الملحق بالعربة الغربية.
على هذا المقاس تبدّلت الصبغات الوظيفية في مهمة أردوغان من اللعب الخلفي بنيران مشتعلة على الجبهات الجانبية إلى النفخ بجمر الجبهات الأمامية الملتهب، حيث تتقد شراراته وسط أعاصير ورياح عاتية متبدّلة الاتجاهات تهب على المنطقة، وتُنذر بجبهات مفتوحة على المجهول، تلاقيه على الضفة الأخرى موجة من التصفيق الغربي والنفخ في سراديب وممرات التركة التركية الموروثة من أمجاد السلطنة البائدة.
فالبحث عن ذرائع التلويح بالتدخل أبعد في صداها من موجة التخمينات القائمة على حدود مشهد التحالف وحساباته ومنتجاته في سلة الإرهاب أو في حقيبة الأطماع، حين تخرج عن سياق المعادلات التي حكمت توازنات المنطقة على مدى قرابة قرن من الزمن، والأخطر أنها تتأرجح فوق حدّ سكين بالغت الدول الغربية في تجديد نصلها والتحريض المدفوع الأجر مسبقاً على مزيد من التهوّر والحماقة، وصولاً إلى توزيع متاريسه غرباً وشرقاً كما هي شمالاً وجنوباً.
التدخل العسكري خارج الحدود التركية, الذي سبق لحكومة أردوغان أن ورثته من حكومات سابقة, وأضافت إليه فصولاً من الترويج والدعاية والتهويل والمبالغة، كان يغطى بأناشيد المصالح الغربية وأهازيج الأطماع التي حشرتها الزوايا الغربية في دوائر متداخلة كانت على الدوام تحت السيطرة، وقابلة للمعالجة الآنية أو اللاحقة، حين تستدعي الحاجة ذلك.
لكن ما تذهب إليه حكومة أردوغان هذه المرة أبعد بكثير من تراجيديا الدور الوظيفي، ومتطلباته، ولا يقتصر على استغلال الوضع الناشئ لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء فقط، بل يبحث عن فوهة البركان ليحشر المنطقة فيها، ولا يتردد في صب الزيت على النيران المشتعلة, والنفخ في جمر رمادها المتقد منذ عقود طويلة تحت ركام الصراعات المتفجرة أو المؤجلة, بحكم ما تحمله في طيّاتها من فتيل بارود وصواعق تفجير, تمتد خارج حدود المنطقة وأبعد من قدرة الجغرافيا على إخمادها.
اللعب بالنار لن يكتفي بحرق الأصابع والأذرع وحتى الوجوه، بقدر ما يهدد بإشعال المنطقة وإحراق المراكب، وبقدر ما يعكس نية مبيتة للهرب من أحكام الجغرافيا وما تفرضه إحداثيات الخرائط القائمة، بعد انتفاء صلاحية تداولها ووصول مشروع «سايكس بيكو» وخرائطه والمصالح الوظيفية المبنية عليه إلى ملامسة عتبة الشيخوخة المتأخرة، وما قد تفرضه من خلط في أوراق المنطقة والعالم في إعادة تصنيع خرائط ووضع إحداثيات على مقاس الأطماع.
حينها.. لا أحد في المنطقة, ولا في خارجها قادر على التحكم بارتداداتها, وما تحمله من بذور حروب متنقلة وجبهات مشتعلة في اتجاهات متداخلة ومتعارضة, ستكون أي علاجات مسكّنة أو مهدّئة مجرد تسطيح لخطورة القادم.
a.ka667@yahoo.com