الملحق الثقافي- رجاء شعبان:
الجمال جمال أيّاً كان حديثاً أم قديماً وما نعتبره قديماً كان حديثاً في وقته، فالقيمة في النوعية وليس في التصنيفات الزمنيّة أو الوهمية!
والجميل جميل سواء أكان شعراً أم نثراً أم كلاماً مأثوراً، فنحن مثلاً نحفظ الأمثال وهي كلام العامة قِيل في حينه ولكنه يأتي بزمننا بوقته حسب الموقف والتجربة فيعبّر عن الحالة الواقعية، ويحفظه الجميع كجواب مختصر مختزل منمّق جميل يعبّر عن الحال والمآل.
وكذلك الشعر وعشاق الرواية، كلٌّ يحفظ ما يحبّه ويلامس قلبه ويتقاطع مع تجاربه، وإن كان للناس ميول فهي ترغب بحفظ الشعر كحالة جماليّة وحالة تعبيرية وصفيّة سواء أكان عصرياً أم قديماً جاهلياً، هذا بالعموم أما عن الخاصّة فلهم شأنهم في تذوّق وحفظ من الشعر قديمه وحديثه.
المدرسة ومناهج التعليم تسهم إسهاماً كبيراً في اختيار الذائقة للجمهور وتقديم ماتراه مناسباً لهم، كذلك الأغاني، والكلمة البسيطة والصورة المدهشة غالباً ماتلفت الجميع لاقتنائها كمخزون لفظي ومعنوي في الذاكرة، وإن جئنا للشعر الحديث له من الجماهيرية مدى قدرته على إيصال الفكرة ببساطة ولنا في نزار قباني خير مثال على ذلك.
الإنسان بطبعه يميل لما هو في عصره والقليل الذي يهوى العودة للتاريخ والبحث، لكن المهتم بأمر يتقصى قديمه ويواكب حديثه، وبرأيي لا يوجد شعر قديم وشعر حديث، يوجد أسلوب شعري يطغى على الآخر… فنحن مهما حاولنا نكران التطور العصري وانعكاسه على اللغة واللهجة والثقافة تبقى الحقيقة تفاعلية بين تغيّر البيئة منعكساً على تغيّر الثقافة وأدواتها، وكلّه صحيح.
في العصور الجاهلية كانت لغتهم الشعرية محكمة لأن العصر كان كذلك يتباهى ويتنافس بذلك من زخرف القول ومتانة اللغة بمظهرها ومعناها، حيث كان الشعر مخزون الثقافة تقريباً أو بريد الاتصالات والمراسيل والشاعر لسان حال القوم أم القبيلة، غدا يُحتَفل بمولوده! ولكن مع تطور الزمن وتغير المراحل وتبدل الشعوب تغيرت وسائل وطرق وأدوات الحفظ والمباهاة، تطورت الحياة من كل النواحي اللغوية والشعرية حال تغير ظروفها وبيئتها ومكانها ومحاور اهتمامها ومعانيها. وهنا نستذكر حادثة كيف يتغير أسلوب الشاعر ومعطاه حسب مايعايشه، كما يتغير أسلوب المتلقّي حسب ما يعيشه.
فالحادثة هنا عن شاعر وهي تقول:
كان علي بن الجهم بدوياً صحراوياً، وعندما قدم إلى بغداد لأول مرة آثر أن يبدأ عهده بمدح خليفتها المتوكل على عادة الشعراء فأنشده قصيدة منها:
أنت كالكلب في حفاظـك للـود ..
وكالتيس في قراع الخطوب
أنت كالدلو لا عدمنـاك دلـواً ..
من كبار الدلا كثيـر الذنـوب
فعرف المتوكّل حسن مقصده وخشونة لفظه، وأنّه ما رأى سوى ما شبهه به، لعدم المخالطة وملازمة البادية، فأمر له بدار حسنة على شاطئ دجلة، فيها بستان حسن، والجسر قريب منه وأمر بالغذاء اللطيف أن يتعاهد به فكان – أي ابن الجهم – يرى حركة الناس ولطافة الحضر، فأقام ستة أشهر على ذلك، والأدباء يتعاهدون مجالسته، ثم استدعاه الخليفة بعد مدة لينشده، فحضر وأنشد:
عيون المها بين الرصافـة والجسـر ..
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
خليلـي مـا أحلـى الهـوى وأمـره ..
أعرفنـي بالحلـو منـه وبالـمـرَّ !
فقال المتوكل : أوقفوه ، فأنا أخشى أن يذوب رقة ولطافة !
إذاً نحن نستلطف اللطيف ونستعذب العذب ونحفظ جواهر الحكمة ولآلئ الكلام الطيّب ذي الأثر سواء أكان عربياً أم أعجمياً، مترجماً أم بلغته، وكما النغمة لا زمن لها والنسيم لا عمر محدَّد يحويه كذلك الذاكرة والأذن البشرية… أجيال تتواكب وتتفاعل وتأخذ وتعطي وتندمج في عصرها وتنعجن بلغتها وتشرب من ثقافتها…. هو نحن هكذا دائماً… لكن لا ننسى دور ما تقدمه وتركز عليه وسائل الإعلام التي أخذت دور المدرسة للكبار… فالمناهج التعليمية للصغار، والكتب والإعلام والنت للكبار، وكلّ يعشق على هواه.
وعلى ذكر قصيدة حديثة مُغنّاة لنزار قباني اشتهرت وانتشرت انتشار العطر في الحقول، أقول:
زيديني عشقاً أيتها اللغة… ببساطتك ووداعتك وجمال متغزّليك وحلاوة شعرائك ورقة طبائعك وعذب جوهرك فأحبك وأقترب منك وأستعذبك وأحفظك عن ظهر قلب.
ونحن نحفظ لجبران خليل جبران وبشارة الخوري وإيليا أو ماضي ومحمود ناجي ونازك الملائكة ونزار قباني كما نحفظ لامرئ القيس وأبو فراس الحمداني والمتنبي والمعتمد بن عباد… والكثير الكثير…. ربما وقف الشعر المحفوظ عند نزار قباني… لكن ليس لقلة أهمية ماجاء بعده… بل لكثرته وعدم مواكبته في مناهج مَن كبر منا، لكن الأجيال الصغيرة حتماً ستحفظ مايدوّن
لها في كتبها وتتربى على أناشيد أسماء عصرية كما تربّينا مسبقاً على أقلام معاصرينا، والمسألة مسألة كثافة وغربلة وزمن.
العدد 1180 – 5 -3 -2024