الملحق الثقافي- غسان شمة:
«الحبّ هو مرآة المجتمع، فالمجتمع الناضج يصنع حباً ناضجاً.. الحب الناضج هو الحب المحرر للطرفين، ينمو في جو متوازن بين الجانب العاطفي وجانب الاحترام».. لا يمكن لمجتمع لا يعرف الشفافية أن ينتج حباً شفافاً وشفيفاً»
بين يدي هذه الكلمات من المفترض، بل ومن الطبيعي، أن ينهض السؤال التالي: هل نعرف الحب الناضج؟ وهل تمتلك مجتمعاتنا من النضج ما يجعلها قادرة على صنع حب ناضج؟..
الحب ليس تاريخاً ولا مستقبلاً، إنه لحظة اسمها “الآن” والحبيب هو الذي يكون حضوره مناسباً وضرورياً في هذا “الآن” بالذات.
رفيف المهنا في كتابه «إلا الحب» يهز سرير القناعات بين ما هو قائم وكائن وبين ما يجب أن يكون من وجهة نظر تقوم في بنيتها الأساسية على زاد معرفي وخبرة إنسانية عميقة يبسطها بروح دافئة في ثنايا كتابه هذا الذي يبغي من خلاله، بتقديرنا، أن يأخذ القارئ إلى استكشاف عوالم وآفاق جديدة أو أكثر رحابة على مستوى الوعي واللاوعي الفردي والجمعي في موضوع شديد الأهمية بطابعه الإنساني المتنوع، مستعيناً بلغة قريبة من الحياة لكنها تثير زوابع في الفكر والتفكير المنغلق على مفهومات راسخة عند البعض أو الكثيرين..
الاحترام والحب، لا يخلقان مع الإنسان، إنهما من العلاقات التي تحتاج لتعليم يومي ومثل أعلى.
ويمكن للحبّ «في المجتمع غير الناضج» أن « يصير مرضاً اجتماعياً أو عرضاً من أعراض أمراض اجتماعية أخرى»
و الحبّ لا يمكن اختصاره بتجربة واحدة ونهائية فهو» احتمالات لا تنتهي من النجاح والفشل» بل يذهب الكاتب أبعد من ذلك ويؤكد أن هاتين الكلمتين «لا مكان حقيقي لهما في الحب، وهما مجرد تقييم عابر وليس توصيفاً كاملا للتجربة لأن كل تجربة تحمل الكثير من صفات الفشل والنجاح»..
ولكن مثل هذا الحب يحتاج إلى ظروف ذاتية تساهم بشكل سليم وعميق في رعاية التربة لتكون صالحة للمضي في هذا الطريق، وهنا نعني الرغبة في التغيير كما يقول الكاتب «حتى الحب، إن لم يرتبط برغبة عميقة بتغييرالحياة والذات فلا قيمة له».. مؤكداً أن «الحب والرغبة صنوان متلازمان. حتى أن ما يعطيه الحب من متعة هو بالأصل قادم من حالة التغيير التي يحدثها في قلب الإنسان فيشعر أنه جدي بكل معنى الكلمة»..
أما التغيير الأكثر أهمية فهو مدى قبول إحداث تغييرات داخلية لاستضافة القادم الجديد» وهنا الإشارة العميقة إلى طبعة هذا التغيير ذلك أن «تغيير الخارج لا يبدأ إلا بتغيير داخلي عميق».
ولكن مهلاً فالتغيير لا يعني «عملية هدم أو حذف لجزء أو لأجزاء من تفاصيل حياتنا، بل يكمن في الحصول على البصيرة الكافية لإعادة الترتيب»..
لأصدقاء الطفولة ومقاعد الدراسة مكان خاص في القلب، إنهم كالحب الأول منزهون عن الخطأ، يفتح لهم القلب أبوابه متى أتوا.
وفي الوقت نفسه لا يمكن الهروب من طبيعة الحياة وواقعيتها بالرغم من رومانسية الحبّ التي قد يقع البعض «فريسة إغرائها» لذلك يؤكد الكاتب على أن الحب «ليس مكاناً للحياة المثالية المتخيلة لأنه يحمل كل شيء في طياته، يحمل العنف والكراهية والغضب والنقمة والغيرة والحسد والمقارنة المؤلمة والخيبة الكبرى.. يؤخذ الحب كاملاً بكل ما فيه أو لا يؤخذ. ومن دخل إليه ليرتاح فمن الأفضل ألا يدخل أساساً»..
كثيرة هي الإشارات والأفكار التي يمكن لها أن تحمل القارئ ليقف أمام مرآة تفرض عليه رؤية صورة ذاته بعمق وشفافية إزاء أسئلة تتداعى تلقائياً وأنت تمضي بين ثنايا الكتاب: هل تقوم علاقة الحب على احترام الآخر؟ هل تحترم خصوصيته؟ هل تفهم وتتفهم ذاتك والآخر؟ هل تكونان معاً في الوقت نفسه في مستوى من الرضا والحرية والندية والقفة؟..
إن غاية الحب كما يراها الكاتب هي «أن أصير -أنا- أي أنه حالة من التحول يعيشها الإنسان في رحلة بحثه عن نفسه فيتعرف على الآخر ليكتشف ذاته، يحب الآخر لينتهي لحب ذاته واحترامها وقبولها كما هي، وهذا بحد ذاته أمر شديد الصعوبة»..
ويتسع أفق الحب ليتمدد على الحياة برحابتها ويمتد ظله على العالم كله، فهذه القيمة النبيلة يكتمل قوس دائرتها بالاتساع الغامر للحب الناضج الذي يرى فيه «نافذة دائمة مفتوحة على الحياة ومن ضمنها الآخر ومن يحب أحداً بصدق ومثابرة ووصل إلى مرحلة بناء النافذة الثابتة أحب العالم كله، وأحبه العالم كله بسبب هذه الفسحة المطلة على المحبة.. على النور».
البساطة الآسرة، العمق الهادف، والعرض الجذاب.. سمات رئيسة في الكتاب الذي يبني علاقته الحارة مع القارئ على إثارة الأسئلة عبر تحريضه ودفعه للنظر في أعماقه ليس لطبيعة علاقته العاطفية فقط، بل لعلاقات الحب في محيطه بوجه عام.. فالغاية الكبرى، في تقديري، هي توجيه صدمة إيجابية لما هو راسخ من مفاهيم بالية أو ناقصة، لتنهض أسئلة الذات الجديرة بالطرح والتمعن فهل حررنا الحب مثلاً؟ هل نقدر خصوصية الآخر ونحترمها؟ وهل نقبله كما هو؟.. والسؤال الأكثر إثارة وجدلية وخلقاً للاختلاف في الرأي: هل تتمتع العلاقات في مجتمعنا بالنضج الخلاق، أم أن ما يكبل أرواحنا، من قيم سائدة، تفرض سطوتها إلى درجة التماهي المرضي؟ .. من الصعب تقديم إجابة حاسمة على السؤال الأخير..!
أسئلة تنطوي على نقد فكري واجتماعي يمضي بهدوء متقن ومدروس، مقتحماً روح قارئه وعقله، ليحفره بسلاسة، عبر مقارنات ظاهرة أو مبطنة، لخلخة الثابت كما يراه.
إن غنى الكتاب، بما ينطوي عليه من رؤى وآراء، سواء اتفقت أو اختلفت معها، يقيم علاقة مؤثرة وجدلية مع القارئ. وأي مقاربة سريعة لـ «إلا الحب» لا يمكن أن تتحرر من الطابع والأثر الشخصي للقارىء، ولا يمكن لها، بحال من الأحوال، أن تغني عن قراءته كاملاً لغناه بالتفاصيل الكثيرة والغامرة.
العدد 1180 – 5 -3 -2024