أ. د. عبد الله المجيدل
أدركت الدول المتقدمة أن عظمة الأمم تكمن في قدرات أبنائها العلمية والفكرية والمهارية، وإلى أن تحقيق أهدافها ومرامي سياساتها مرهون بالتفوق في المجال العلمي؛ لأنه الركيزة الأولى في اقتصاد الدول وتطورها، وتحقيق رفاهية شعوبها والمحافظة على مكانتها في المسرح الدولي، وتحصين دفاعاتها، لأنه السبيل الوحيد لتحقيق التقدم والسبق الحضاري في مختلف المجالات، كما أنه لا يمكن لبلد ما المحافظة على إنجازاته الوطنية وتعزيزها والمحافظة على هويته وكيانه إلا بامتلاك ناصية العلم، والسبيل لذلك يبدأ بنظم التعليم وتجويد مخرجاتها. ويُعد الحفاظ على مستوى عالٍ من التعليم شرطاً مهماً للتطور الديناميكي للمجتمع، وتحتل مهام تحسين الجودة والكفاية في المدارس الوطنية والعالمية مكان الصدارة.
روسيا مثالاً..
كل الدول المتقدمة علمياً لها تجربتها في هذا المضمار، بما فيها الصين وأمريكا وبعض الدول الأوروبية، ولكن سنعطي روسيا كمثال هنا، فقد استنفدت الإمكانات الإبداعية للمدرسة السوفييتية إلى حد كبير في النصف الثاني من القرن العشرين، وكان التعليم العام في حالة أزمة، وثبت في روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي، أن الحفاظ على مستوى عالٍ من التعليم الأساسي يمثل مشكلة كبيرة، وفي عام 1995، وفي دراسة استقصائية شملت 1500 مستجوب، قال أكثر من 70% منهم أنه أصبح من الصعب الحصول على تعليم لائق، ما أدى إلى فقدان الاهتمام بالتعليم.
وفي العام الدراسي 1995/1996، كان معدل عدم حضور طلبة المدارس الإلزامية 7%، وفي عام 2006، كان هناك حوالي 2 مليون طفل لم يتلقوا أي تعليم في أي مكان، واتضح التناقض بين الأهداف العليا المعلنة ونتائج التعليم، وظهرت الحاجة إلى تدريب عالٍ في مختلف مجالات الحياة العامة.
هناك علاقة وثيقة بين الأداء الأكاديمي والوضع المهني والاجتماعي لأسر الطلبة، وتتوثق هذه العلاقة مع تقدم الطالب في السن، وأشار وزير التربية والعلوم أ. فورسينكو، الذي حلل في عام 2008 مستوى تدريب خريجي المدارس الثانوية، إلى أن ثلثهم لا يعرفون الرياضيات جيداً، وإذا حصل أطفالنا على المراكز الأولى دائماً في الثمانينيات في المسابقات الدولية في الرياضيات والعلوم الطبيعية، فإنهم في التسعينيات تراجعوا إلى المركزين الثامن والتاسع.
ولكن تحسن الوضع في السنوات الأخيرة، كما أظهرت نتائج الدراسة الدولية PIRLS-2011، بأن تلامذة المدارس الروسية يقرؤون أفضل من أقرانهم الأجانب، واحتل الأطفال الروس من تلامذة الصف الرابع، المرتبة الثانية بين أطفال المدارس من 49 دولة وفقاً لهذا المؤشر (دراساتPIRLS- 2011 ) ويفوز المبرمجون الروس الشباب بشكل متزايد في المسابقات الدولية، وفي الأولمبياد الدولي، يكون طلبة روسيا دائماً من بين الخمسة الأوائل، ومع ذلك، فمن الضروري أن نتذكر أنه يتم إرسال نخبة مدربة تدريباً خاصاً إلى مثل هذه الألعاب الأولمبية.
وبشكل عام، لايزال وضع جودة التعليم العام في روسيا بحاجة إلى مزيد من الاهتمام، وهذا ما تؤكده الدراسات الدولية المقارنة للإنجازات التعليمية للطلاب- TIMSS (دراسة الاتجاهات في الرياضيات والعلوم) وPISA برنامج تقييم الطلاب الدوليين PISA-2000؛ PISA-2003؛ TIMSS-2007إذ يجب ان تكون مؤشرات جودة التعليم العام في روسيا أفضل بكثير مما هي عليه الآن، إذ تمتلك روسيا مختلف مقومات التفوق في تجويد تعليمها.
وفي إطار ما تم ذكره هل يدرك القائمون على التربية العربية أهمية تجويد التعليم في هذه المرحلة الحاسمة من السباق الحضاري، بالنسبة لدول كبرى، فمن الأولى أن تنخرط بلداننا العربية في تجويد تعليمها ومخرجاته، في عالم يتبدل تشكيل معالمه في كل يوم، استناداً على ما تنجزه الأمم والشعوب والدول من إنجازات علمية، تحقق من خلالها عوامل قوتها وضمانة استمرار وجودها، إذ يشكل التعليم الأداة الحقيقية في أن يكون لنا نحن العرب موقع على خارطة العالم الحضارية والعلمية.
* أستاذ في كلية التربية بجامعة دمشق