الملحق الثقافي- د. ثائر زين الدين:
استلهمتِ النصوص الشعريّة منذ زمنٍ بعيد لوحةً معيَّنةً أو تمثالاً أو حتى فنَّاناً تشكيليٍّاً بعينهِ ، لكنَّ بعضها استلهمَ الفنَ عموماً أو الرسمَ بصفتهِ موضوعاً للقصيدةِ؛ كما نجدُ في قصيدةٍ عنوانها :» كيفَ تتعلَّم الرسم»، للشاعر القرغيزي/ السوفييتي بولات أكودجافا (1924-1997):
« إذا أردت أن تصبح مصوّراً فلا تستعجل الرسم.
ضع الريش المختلفة المصنوعة من شعر الغرير أمامك.
خذ اللون الأبيض؛ لأن الأبيض هو البداية،
خذ بعد ذلك الأصفر؛ لأن كل شيء ينضج !
ثم خذ اللون الرمادي، كي يلتمع الخريف في السماء بلون الرصاص
ثم خذ اللون الأسود؛لأن لكل بداية نهاية !
بعد ذلك خذ اللون الليلكي وبكرم ٍاضحك وابكِ،
ثم خذ الأزرق؛ ليحطّ مساء العصافير على يدك،
بعدها خذ اللون الأحمر، كي تبدأ الشعلة بالخفقان،
وعليك بعد ذلك بالأخضر، كي يبعث الغصن النار في الأحمر
بعد ذلك اخلط تلك الألوان في قلبك
كما لو أنها الشهوة
ثم امزج تلك الألوان والقلب مع السماء،
مع الأرض، وبعدها…
الأهم من ذلك – أن تحترق، وتلتهب
دون أن تأسف لذلك.
قد تجد من يحاكمك في البداية
لكنّه لن ينساك
بعد ذلك !»
وكما لا يخفى على كثيرين يُقدِّمُ الشاعرُ في هذه القصيدة رؤيتهُ للألوان، لمدلولاتها، كيف يراها، وكيفَ يُحسُّ بها، وكيف ينبغي للرسامِ أن يتعامل معها، كيفَ عليهِ أن يمزجها ليجعلها تُعبِّرُعن خلجاتِ نفسهِ، والرسامُ هنا ليس بالضرورة أن يكونَ الفنان نفسه، بل هو يمثّل صورة الإنسان الحقيقي الذي عليهِ أن يتعامل مع الأشياء والظواهرمن حولهِ بثقةٍ وثبات وعليهِ أن يلتهبَ ويحترقَ خلال ذلك دون أن يشعر بأسفٍ على أي شيء، وقد يجد من يحاكمه في البداية، وقد يسعى لإدانته، لكن حتّى هذا الشخص لن يستطيعَ إلّا أن يحترمه وإلّا أن يتذكَّرهُ، فلا ينساه فيما بعد.
ومن القصائد التي تستلهم موضوعَ فن الرسم أيضاً قصيدةٌ طريفةٌ تحملُ عنوان « في فن الرسم»، للشاعر السوري صقر عليشي، وتقعُ في مقطعين كبيرين، عنوان الأول «في رسم بقرة» ، والثاني «في رسم نمر» ، لنقرأ الأول منهما:
«قلت لنفسي:
أسهل لو نرسمها في المرعى
وهي تقضّ الأعشاب الغضّة.
هذا يعطي اللوحةَ نضرتها
وتلائم فيما لو علقها أحدٌ ما
يوماً في الصالونِ،
فلونُ العشبِ يريح الجدرانْ
* * *
إن مرّت في الأفق غيومٌ
سأثبّتُها
لن تجتازَ سماءَ اللوحةِ
ما أمكنني،
ولأجل الشمس سأترك دائرةً
في الأعلى
أملؤها بعصير الليمونِ الطّازَجِ،
ضوء الليمون لديهِ سطوع
لا يُخفى
ولديه علاقته الودّية بالألوانْ
* * *
ولْنأخذْ حيطتَنَا….
لو يصدرُ أيّ خوارٍ
يهتزّ فضاءُ اللوحةِ إذاكَ….
ويجفل منه الوقواق الواقف
في أعلى شجر الحورْ
نذراً…
لو هدأتْ
سأزيدُ جمالاً في لفتتها
وأحط لها حزناً في العينينِ
بعيدَ الغورْ
سأبين لها في الوجه ملامحَ
في الطيبةِ
لا تبدو في الإنسانْ
* * *
فيما نرسم نحنُ
امتلأ الضَّرْعُ
وراحَ حليبٌ ينسابُ
ويُرجعُ لوحتنا بيضاءَ….
كأنْ
ما منْ شيءٍ كانْ.
* * *
في هذا النص الطريف الذي يتقمَّصُ الشاعرُ فيه رساماً نجدُ أنفسنا أمام لوحةٍ ريفيّةٍ، هي منظر طبيعي يوزِّعُ الفنان فيه العناصر والكتل بصورةٍ بسيطةٍ، ويستلهمُ ألوان الطبيعةِ نفسها؛ فيلوِّن بها البقرةَ، والأعشابَ، والأشجارَ، والشمس وضوءَها، ويسبِغُ على الكائنِ الحيِّ في اللوحة (البقرة) صفاتٍ إنسانيّة، فيجعَلُ عينيها تشفانِ عن حزنٍ دفينٍ، لا يكون عادةً لبناتِ جنسها، وقد يمنحُها من الطيبةِ أكثر مما نجدهُ عند الإنسان، ويستمرُ الشاعرُ/ الرسامُ في العملِ على لوحته، حتى تلك اللحظة التي يفاجِئنا فيها (وقد أوهمنا أنّه هو نفسه قد فوجئَ أيضا) أن الحليبَ راحَ يسيلُ من ضروع البقرةِ ويغمرَ اللوحة، فيعيدُها من جديدٍ إلى البياض.
وسيعملُ الشاعرُ في رسم لوحته الثانية بالطريقةِ نفسها.
لكن الاستلهام الأرقى للفن يحدثُ عندما يتعامل الشاعرُ مع نصّهِ بروحِ الفنان التشكيلي وعمق رؤياه، وطريقته في النظر إلى الطبيعةِ.
هنا يطمحُ الشاعرُ إلى التعاملِ مع قصيدتِهِ أو مع الورقة البيضاء التي سيكتب عليها كما يتعامَلُ الفنان التشكيلي مع لوحتِهِ؛ مع قطعة القماش التي سيرسُمُ عليها عمله الفني، أو بعبارةٍ أخرى يسعى الشاعر للتعامل مع القصيدة برؤيا الفنان التشكيلي وبفهمِهِ لكيفيةِ بناء العمل من استخدامٍ للونٍ ومهارةٍ في وضعِهِ على السطح المستوي أمامه، لوناً خاماً…. أو معالجاً أو ممزوجاً…. إلى توزيعِ الكتِلِ عليهِ، إلى الخطوطِ وانسيابها وتهاديها في العمِلِ أو تكسّرها ونزقها أو تقطّعِها أو غيابها أو… أو… إلى المنظور وزوايا الرؤيا… إلى غير ذلك…
وهنا تتجلّى – برأيي أعلى مراتب التراسُل بين الفن التشكيلي والشعر؛ أي عندما يتمكنّ الشعِرُمن استرفادِ وتوظيفِ ما يستطيع من تقاناتِ الفن التشكيلي وأساليبِه وأدواته، وستجدُ من الشعراء من تمكّن من تحقيقِ شيءٍ من هذا لأنه صاحب موهبة عالية وذائقة سامية، دون معرفةٍ أكاديّمية أو مدرسيّة بالفن التشكيلي، وقد نلمسُ نجاحاً في ذلك ونرى خلفه معرفة عميقة بأصول الفن التشكيلي وعلومِهِ وأوّلها علم الألوان… وقبل أن أمثِّل لرأيي هذا بنماذج من الشعر العالمي والعربي المعاصر، لا بأس من العودة قليلاً إلى بضعة نماذج من الشعر العربي القديمِ في المشرقِ وفي الأندلس، لابدَّ أنَّها مهَّدت لهذا الشكلِ الراقي من أشكالِ التراسلِ بين الفن التشكيلي والشعر. أما النموذجُ المشرقيُّ فهو قصيدةُ أبي تمّام (803-845) م، التي أختارُ منها الأبيات الآتية :
رقّت حواشي الدهر فهي تمرمرُ وغدا الثرى في حليهِ يتكسَّرُ
نزلت مقدّمةُ المصيفِ حميدةً ويدُ الشتاءِ جديدةٌ لا تُكفَرُ
لولا الذي غرسَ الشتاءَ بكفِّهِ لاقى المصيف هشائماً لا تُثمِرُ
مطرٌ يذوبُ الصحو منه وبعدَهُ صحوٌ يكادُ من الغُضارة يُمطرُ
غيثانِ فالأنواءُ غيثٌ ظاهرٌ لكَ وجهُهُ والصحو غيثٌ مُضمَرُ
وندىً إذا ادَّهنت به لمم الثرى خلتَ السحابَ أتاهُ وهو مُعَذَّرُ
يا صاحبيَّ تقصَّيا نظريكما تريا وجوهَ الأرضِ كيفَ تَصوَّرُ
تريا نهاراً مُشمساً قد شابهُ زهرُ الرُبا فكأنَّما هومُقمِرُ
دنيا معاشٌ للورى حتى إذا حلَّ الربيعُ كأنَّما هي منظرُ
أضحت تصوغُ بطونها لظهورها نوراً تكادُله القلوبُ تَنوَّرُ
من كلِّ زاهرةٍ ترقرَقُ بالندى فكأنَّها عينٌ إليكَ تحدَّرُ
تبدو ويحجبها الجميمُ كأنَّها عذراءُ تبدو تارةً وتَخَفَّرُ
حتى غدتْ وهداتُها ونجادُها فئتينِ في خُلعِ الربيعِ تبختَرُ
مُصفَرَّةٌ مُحمَرَّةٌ فكأنَّها عُصَبٌ تَيمَّنُ في الوغى وتَمَضَّرُ
من فاقعٍ غَضِّ النباتِ كأنَّهُ دُرٌّ يُشقَّقُ بعدُ ثمَّ يُزعفَرُ
أو ساطعٍ في حُمرةٍ فكأنَّ ما يدنو إليهِ من الهواءِ مُعَصفَرُ
صُنعُ الذي لولا بدائعُ صُنعِهِ ما عادَ أصفرَ بعد ما هو أخضرُ
لن أبالغ لو قلت :إن القصيدة لوحة فنيّة باهرة في وصف الطبيعةِ وتبدّلاتها من فصلٍ إلى آخر، بدءاً من البيتِ الأولِ الذي يقدّم لنا تبدّل الزمن من الخشونةِ إلى النعومة، مروراً بالأبيات التي تصفُ فصلَ الشتاء ونِعمه الوافرة على الطبيعةِ والبشر، ثمَّ الأبيات التي ترسمُ – كما لو كانت ريشةَ فنانٍ واقعيٍّ ماهر- تحوّلات الأرضِ والهواءِ على يدي الربيع؛ ولاسيما صورة المطر الربيعي والصحو وتعاقبهما، وتبادلهما الأدوار، ثمَّ يُدهشنا هذا الشاعرُ الملوِّن حينَ يصفُ النباتات والأزهار وسقوط الضوءِ والندى عليها ومنظر الوهادِ والأنجاد وقد كستها تلك النباتات بألوانها، وتبدّل تلكَ الألوان بتأثيرأوقاتِ اليومِ نفسهِ ثمَّ تتالي الأيام، كلّ ذلك باستخدامِ لغةٍ مجازيّةٍ استعاريّةٍ خلّابة؛ ما يحتاجُ إلى دراسةٍ مُتأنِّيةٍ واسعة.
وفي كثيرٍمن النماذجِ الشعريّة الأندلسيّة نرى الشاعرَ رسّاماً ماهراً في استخدام الألوان ضمن قصيدتهِ اللوحة؛ بتأثير بيئة خلابة وحس تشكيلي عفوي لافت، لكنه على الأغلب يظل وصّافاً ماهراً، مبدعاً في بسط الألوان على لوحة القصيدة، دون أن يتجاوز ذلك إلى جماليات أرقى وأسمى؛ كأن نقرأ لابن خفاجة في وصف نهر ٍ :
متعطّف ٌ مثل السوار ِ كأنّه ُ – والزهر ُ يكنُفُه – مَجرُّ سماء ِ
قد ْرقَّ حتى ظُن َّ قرصاً مُفْرَغَاً من فِضّة ٍ في بردة ٍ خضراءِ
وغدتْ تحفُّ به الغصون ُ كأنها هدبٌ تحفُّ بمقلة ٍ زرقاء
ولا بدَّ أن تجربة شعراء الأندلس عموماً قد أثّرت في بعض الشعراء الذين جاؤوا بعدهم وأفادت الأذكياء منهم فطوّروها…
على رأس هؤلاء الشعراء فريدريكو غارثيا لوركا الوريث الشرعي لهؤلاء الشعراء الرسّامين، وكان لوركا رسّاماً وقد قال عنهُ ذات يوم سلفادوردالي الذي عرفه وهو شاب في العشرين:» ليس لدى لوركا صورة شعرية تبدو خالية من لون مرتعش»، ولا ريب أن وراءَ عشق لوركا للألوانِ واستخدامها في الشعر هو ذلك الكم غير القليل من مشاهد ذكرياتِ طفولتِهِ المبكرّة، وهو المولود بالقرب من مدينة غرناطة القديمة؛ حيثُ « تتضاعفُ فيها ألوان الموشور وتتعدّد كما تتضاعف فوق جوهرة متعددة الوجوه» ، بالإضافة إلى ما حملته ذاكرته من تجوالِهِ وإقامته في مدريد وفي الجنوب الإسباني، وقد ذكر الشاعرُ « الميدة عند الغروب والباسين والحمراء وجنة العريف والنباتات الأندلسية تنسجُ بساطاً فارسياًّ عزّ نظيرُهُ، ويحط عليه برفق وإشفــاق (نهر دارو ) كما لو كان سيفاً» .
وجراءَ ذلك على الأرجح رأينا الشاعر يتمكنّ من استلهام ألوان غرناطة بصورة رائعة تذكِّر بشعراء الأندلس العرب. يقول الناقد لويس باروت: « استخدم لوركا في البداية نظاماً أصيلاً للألوان الأساسيّة لرسم الجبال المجاورة: أخضر بحري شاحب، بني خفيف، أحمر، بني غامق؛ تخرجُ منها تدريجيّاً الإيقاعات الجديدة المحجبة مغمورةً بالألوان الأرجوانيّة. واستعمل لوركا سُلّماً ثانياً للألوان لاستدعاء المدينة بواجهاتها المتعددة، أرجواني تفّاحي، أخضر، وردي مبيض، نرجسي أساسي؛ وهذهِ كما يقول هي ألوان الملابس الساتانيّة الداخليّة التي ترتديها نساء غرناطة، وهي أزهار قصر الحمراء، الياسمين والآس وأشجار الفستق والغار، ومشاتل الورد، وأخيراً :يعمد إلى سُلم لوني آخر أكثر رقةً ونعومةً، فعندما يقبل المساء فإنه يكسو القرى والجبال رداءً حريريّاً مُشرباً بالفضّة مع كلّ بريق اللؤلؤ ( ألوان الصقيع )، والقرنفل، والأوبال، واللؤلؤ القديم، والزفير، والعقيق إلى غير ذلك من الدقائق اللونيّة التي كان على لوركا أن يكتشفها ويعيد اكتشافها في ذاكرته والتي اعتمدَ عليها فيما بعد في رسم أجواء وبيئات قصائده الغجريّة».
العدد 1183 – 26 -3 -2024