الملحق الثقافي- عمار النعمة:
نجزم بأن من جالس الأديب الراحل حنا مينه يوماً سيدرك تمامًا بأنه أمام قامة أدبية لامثيل لها، فأديب البحر كما أسماه البعض كان حضوره آخذاً في كل مكان على هذه البسيطة، فهو الأديب الواقعي، والجريء، الشديد في الالتصاق بقضايا مجتمعه، الحاضر في أعماله التي لاتمحى من الذاكرة.
ولد مينه في مدينة اللاذقية سنة 1924، أي في زمن الانتداب الفرنسي على سورية، اضطرته الظروف أن يعمل في مهن شاقة حتى يضمن عيشه، فاشتغل حمالاً وبحاراً ومربياً وحلاقاً قبل أن ينتهي به المطاف روائيًا وموظفًا حكوميًا… لكن هذه المصاعب التي عاشها مينه نهل منها الكثير الكثير فكان أدبه قريبًا من هموم الناس، صوّر الواقع بحرفية عالية لدرجة جعلت القارىء يعيش مع كتاباته لسنوات وسنوات، ساهم مينه بصورة كبيرة في تأسيس رابطة الكتاب السوريين سنة 1951، وبعد سنوات قليلة، وفي سنة 1956 تحديدًا، قاد هذا «الائتلاف الأدبي» فتكللت جهوده بتأسيس اتحاد الكتاب العرب حتى يكون بمثابة منصة لمثقفي المشرق والمغرب.. ربما كنت محظوظاً أنني منذ سنوات زرته في منزله الكائن بحي مساكن برزة، فما كان في مخيلتي عن هذا الرجل قد أصبح حقيقة عندما قابلته وحاورته لاسيما وهو الذي تربينا على اسمه ورواياته المسكونة باللغة الجميلة، والسرد السلس، والثقافة العالية، والأجمل عندما بدأ أمامنا يسترجع بعض الصور من الذاكرة المترعة بعذابات الفقر والرحيل ومواجهة الأقدار.. آنذاك عندما سألته عن البحر قال لي: «إن البحر كان دائماً مصدر إلهامي، حتى إن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب».. وأضاف واصفاً نفسه بـ أنه «كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين، فالكفاح له فرحه، له سعادته، له لذته القصوى، عندما تعرف أنك تمنح حياتك فداء لحيوات الآخرين، الذين قد لا تعرف لبعضهم وجهاً، لكنك تؤمن في أعماقك، أن إنقاذهم من براثن الخوف والمرض والجوع والذل، جدير بأن يضحى في سبيلهم».
بلا شك أن حنا مينه أحد أهم الروائيين في سورية والعالم العربي، ترك خلفه ما يزيد على 40 رواية، ومجموعة قصصية، ليساهم بتشكيل ملامح الرواية السورية على مدى نصف قرن من الزمن، نال فيها جوائز أدبية عديدة داخل سورية وخارجها، في ذكرى ولادته المئوية لايمكن أن نحتفي دون الرجوع إلى ذكرياتنا مع رواياته، فكيف لنا أن ننسى رواية الشراع والعاصفة التي تجري أحداثها في ظل مناخات الحرب العالمية الثانية والتي دارت حول المعاناة الحياتية لفئات اجتماعية مختلفة من أبرزها هموم عمال البحر في مرافئ اللاذقية، وكيف لانستحضر معاً رواية نهاية رجل شجاع التي تحولت إلى عمل درامي تلفزيوني حقق حضوراً لامثيل له في تاريخ الدراما فصوّر لنا شخصية (مفيد) للدلالة على تناقضات النفس البشرية، والصراع بين الخير والشر داخلها، ومفيد ليس إلا مثالًا أراد مينه أن يوصلَ من خلاله رأيه حول هذا الصراع الذي يمثّل بدوره طبيعة من طبائع البشر، أيضاً رواية «المستنقع» التي تغوص في الريف، الفقر، السياسة الفاسدة، وما أحوجنا اليوم لهذا الوصف والتوصيف والسرد والجمال، في رحاب الذكرى يحق لنا أن نقول أن سورية ولادة وقد أنجبت الكثير من المبدعين، لكن حنا مينه هو الأيقونة التي رُسمت في مخيلتنا من خلال رواياته التي لم تتوقف حدودها داخل الوطن وإنما ترجمت رواياته إلى لغات أخرى مثل الروسية وغيرها.
العدد 1183 – 26 -3 -2024