الملحق الثقافي- محمد خالد الخضر:
لا يمكن أن نسمي ما كان موجودًا في القديم بشعر الجاهلية ولا يمكن أن نحسبه على مرحلة فهو قادر على العبور إلى الأزل لأنه يمتلك الموهبة بمكوناتها الكاملة عكس ما يدور فيما يسمى شعراً غالباً في عصرنا وتضاف إلى الموهبة المعرفة والثقافة وقوة الحضور والنقاء في الحكم والتعامل الثقافي ونأخذ حالة في التاريخ شاهد على ما جرى تحمل كثيراً من مقومات التحول والتعايش على مر العصور.
قال الأصمعي : ( الشعر جذل من كلام العرب، تقام به المجالس وتستنتج به الحوائج وتشفى به السخائم ) .
وقال ابن سلام : كان الشعر في الجاهلية عند العرب ديوان علمهم، ومنتهى حكمهم به يأخذون، وإليه يصيرون وروى أبو هلال العسكري أن الشعر ديوان العرب وخزانة حكمتها ومستنبط آدابها ومستودع علومها وأن العرب لا تعرف أنسابها وتواريخها وأيامها ووقائعها .. إلا من جملة أشعارها فالعرب أمة شاعرة يسحرها البيان وتروعها البلاغة ويسترد بإعجابها الشعر الجيد البليغ الذي رفع من شأنها، وأسهم في علو مكانتها بين علو الأمم ولشاعرية العرب عوامل منها البيئة الطبيعية والبادية المليئة بالضياء والنور واللغة العربية وما تمتلكه من تقنيات فنية وإبداعية فهي لغة شاعرية غنية بمفرداتها وأسهم الشعر في إظهار الملكات النقدية المتنوعة وتنميتها
ووعى النقاد المفاهيم النقدية للشعر من شعر ما قبل الإسلام، ومن أهم ما حفل فيه ذلك العصر هو الأسواق الأدبية التي تلتقي فيها جماهير الشعر ويلتفون حول فحول الشعراء والخطباء والبلغاء مصغين إليهم بشغف ولهفة يسألون عن أمور هي في صميم النقد العربي تعتمد على الذوق والمعرفة والفصاحة.
وقد ارتأى الشعراء لأنفسهم حكاماً من ذوي الخبرة والممارسة الطويلة ومن أولئك النابغة الذبياني الذي كانت تضرب له قبة حمراء بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها .. وأول من أنشده الأعشى ميمون بن قيس أبو بصير قصيدته..
ما بكاء الكبير بالأطلال
وسؤالي وما ترد سؤال
ثم أنشده حسان بن ثابت
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
فقال النابغة أنت شاعر ولكنك أقللت جفانك وأسيافك وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك.
وقالت الخنساء
وإن صخرًا لتأتم الهداة به
كأنه علم في رأسه نار
فقال النابغة والله لولا أن أبا بصير أنشدني آنفًا لقلت : إنك أشعر الجن والإنس
فقال حسان : والله أنا لأشعر منك ومن أبيك ومن جدك
فتقبل النابغة اعتراض حسان وأجابه برؤية الشيخ الناقد وحكمته فقبض على يديه برفق وقال :
يا ابن أخي لا تحسن أن تقول مثل قولي
فإنك كالليل الذي هو مدركي
وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
ويعلم النابغة أن حسان سوف يطأطئ له لأنه ابتكار فيه صورة الليل الذي يمتد ليدرك الموجودات كلها.
وفي مقاييس أخرى بعد مرور سنوات طويلة سئل الحطيئة عن أشعر الناس فقال :
من يجعل المعروف من دون عرضه
يفره
ومن لا يتق الشتم يشتم
وقال كعب بن زهير
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
يومًا على آلة حدباء محمول
أنبئت أن رسول الله أوعدني
والعفو عند رسول الله مأمول
وبذلك البيت نال عفو الرسول الكريم وهي حالات ثقافية كان العرب مشغولًا بها عكس ما وصلت إليه منظومة ما يسمى بالحداثة فيتهم الأصيل ويهاجم ويطعن الشعر الذي يمتلك بقومات بحجة عدم استطاعته مواكبة العصر برغم أن ما يدور فيه لا يمتلك أدنى مشاعر الإنسانية … فالمؤسسة الثقافية لا يمكن أن يحضرها خمسون شخصًا مهمًا كان النشاط مهمًا .. وأصبح التهويم شعرًا والهلوسة كذلك ونامت ضمائر النقد إلى يوم ما ..
وهذا لا يعني رفض الحداثة ولكن جميل أن تكون مواكبة لروح الإنسان وأكثر تطورًا مما كانت عليه دون أن نستبدل الشعر بالهراء .
العدد 1185 –16-4-2024