الملحق الثقافي- عبد الكريم العفيدلي:
هناك من ينظر إلى أن شعراء الحداثة لم يهملوا الموروث التاريخي رغم تمردهم على عمودية الشعر، نظروا من مسافة مناسبة وتمثلوا الموروث جوهرًا لا مظهرًا، وعليه عززوا موقفهم المدافع بفكرة أن التجارب الحداثية بالشعر العربي بقيت وفية لأصالة الموروث التاريخي رغم أنها لم تندمج به، وقد يكون أهم مصدر لاستلهام التراث هو القرآن الكريم ثم الحديث النبوي وما اكتنزه التاريخ العربي من قصص شعبي وإشارات ورموز، رغم أن البعض انفتح على تاريخ الشعوب الأخرى وموروثها وثقافاتها واستلهم منها إلا أن هذا لا يعتد به عندما نتكلم عن الشعر العربي بين قديمه وحديثه بمقاربة موضوعية لأن هذا الانفتاح أضعف أدوات الحوار مع الموروث العربي فمثلاً الذين تأثروا بالقصيدة الآلوتية وحاولوا استخدام أدواتها الفنية فاتهم أن يدركوا دورها داخل القصيدة، ولو وقفنا على تجارب المجددين بالشعر العربي وأخذنا نماذج منهم لنجد أن تمثل القرآن واضح في قصائدهم كقول نزار قباني : هزم الروم بعد سبعٍ عجافٍ وتعافى وجداننا المطعون من هذا البيت الذي أخذناه كمثال نجد أن الشاعر استقى من القرآن وحضرت في هذا البيت آيتين، (يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ ) وهذه الآية وردت في سورة يوسف في تفسيره الرؤيا بالسجن.
و (الۤمۤ
١ غُلِبَتِ ٱلرُّومُ
٢ فِیۤ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَیَغۡلِبُونَ
٣ فِی بِضۡعِ سِنِینَۗ لِلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ مِن قَبۡلُ وَمِنۢ بَعۡدُۚ وَیَوۡمَىِٕذࣲ یَفۡرَحُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ
٤ بِنَصۡرِ ٱللَّهِۚ یَنصُرُ مَن یَشَاۤءُۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلرَّحِیمُ ) الآيات الخمس الأولى سورة الروم وهي من الإعجاز القرآني أخبرت عن هزيمة الروم أمام الفرس بالشام، وأنهم بعد هذه الهزيمة سيغلبون الفرس،هنا الشاعر يتحدث عن الفترة المريرة بين هزيمة حزيران وحرب تشرين التحريرية فتمثل هذه الآيات للدلالة على ذلك .. وفي موضع آخر يقول نزار : كل ليمونة ستنجب طفلاً ومحال أن ينتهي الليمونُ ويحاكيه قول محمود درويش : وحبوب سنبلة تجف ستملأ الوادي سنابل هنا تمثل للقرآن واستلهام من الآية الكريمة.
( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) .. ونجد الاستلهام من القرآن حاضرًا بقوة لدى السياب كقوله : وتحت النخل، حيث تظل تمطر كل ما سعفه تراقصت الفقائع وهي تفجر، إنه الرطب تساقط في يد العذراء، وهي تهزّ في لهفة بجذع النخلة الفرعاء.. يستحضر الشاعر هنا الآية الكريمة في سورة مريم (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا)، هذا الاستحضار للتعبير عن حنينه لقريته يتخيل حبات المطر المتساقطة بين النخيل كتساقط الرطب .. وفي قصيدته «شناشيل بنت الجلبي » عندما أصيب بداء السل يستحضر معجزة المسيح ابن مريم إحياء الموتى بإذن ربه متمنياً مثل هذه المعجزة تنقذه مما حل به : تاج وليدك الأنوارُ لا الذهب سيُصلبُ منه حبّ الآخرين، سيبرئءُ الأعمى ويبعث من قرار القبر ميتاً هده التعب من السفر الطويل الى ظلام الموت، يكسو عظمه اللحم ويوقد قلبه الثلجي، فهو بحبه يثب.
ولوذهبنا إلى عالم القص والرواية ووقفنا على أعمال نجيب محفوظ لوجدنا مدى تأثره بألف ليلة وليلة التي ألهمت الأدباء في الشرق والغرب، ناهيك عن الملاحم والقصص الشعبي الذي كان قارئاً جيدًا له في صغره ونلاحظ مدى تأثره بهذا التراث الذي انعكس في مجمل أعماله الإبداعية فنجد لديه « ليالي ألف ليلة » و « رحلة ابن فطومة » و « ملحمة الحرافيش » و « حكايات حارتنا » و « حديث الصباح والمساء » وحتى « أولاد حارتنا » رغم ماأثير حولها من ضجيج أحدثه أدعياء المحافظة لم يحل دون اكتشاف نجيب محفوظ ومحاولته إيجاد خصوصية فنية عربية في بناء الرواية .. أما عبدالسلام العجيلي رغم أن التاريخ حاضرًا بقوة لديه، إلا أنه اختلف مع الكثيرين في تناوله على سعة خياله وخصبه وفي هذا يوضح : «لم تكن غايتي أن أضع آثاراً كالتي كتبها والتر سكوت وألكسندر دوما وجرجي زيدان بالعودة إلى وقائع الماضي المشهورة والمنسية، وإحاطتها بنسيج واسع من الخيال من بغية إمتاع القارئ، بل إن غايتي كانت دوماً أن أبني عملي الأدبي على أحداث ماضية، لأقتبس منه دلالات على ما يجري في الحاضر، أو ما أتوقع أن يجري، أو ما أؤمل أن يجري في المستقبل».
من هذا نفهم منهج العجيلي في استلهامه من التاريخ الذي تطفح به أعماله فهو يتناوله بشكل مختلف عن الآخرين كجرجي زيدان مثلا الذي مزج بين الخيال والحقيقة التاريخية، فالعجيلي في أعماله الأدبية لم يكن مكلفًا نفسه بكتابة السير التاريخية، ولم يكتب التاريخ على شكل حوليات، ولم يدرس عصرًا بعينه محيطًا بجوانبه المختلفة .. لقد برع العجيلي بأسلوبه المتفرد بالتخلص من كل إشكالات التاريخ وحتى من التعاطي مع اللحظة التاريخية التي لايعترض عليها أيديولوجيًا ولاسياسيًا .. هو قارىء للتاريخ ومسكون به ويأخذ منه مايخدم العمل الإبداعي بإسقاطاته للحاضر والمستقبل، والبيئة التي ينتمي لها هي بيئة خصبة للأسطورة والخرافة والقصص الشعبي وانفتح على ثقافات الشعوب الأخرى وخصوصًا الفرنسية إلا أنه لم يقلد ولم يستلهم ما لايتوافق مع الخصوصية الفنية للأدب العربي .. أما عن استلهام التاريخ بالدراما أقف عند كلام للكاتب وليد سيف يختصر كثيرًا من الحديث حول هذه القضية : «استلهام التاريخ الماضي وشخصياته ووقائعه وتوظيفها من خلال رؤية فكرية وفنية متعمقة وراقية لا ينفي عن الدراما صفة المعاصرة.. فالعمل الذي تدور وقائعه في التاريخ الماضي ليس عملاً تاريخياً تسجيلياً يروي وقائع التاريخ، وإنما هو يوظف المادة التاريخية بصياغة خطاب فكري وسياسي وإنساني وفني وجمالي معاصر، يصوغه كاتب معاصر ويتوجه به إلى مثقّفٍ معاصر في سياق اجتماعي ثقافي سياسي معاصر» لايمكن أن نقول أن توظيف التاريخ ضمن سياقات محددة في الأعمال الإبداعية، هروب من الواقع السياسي أو أنه محكوم بميل أو أيديولوجيا معينة، أصلا هو ليس حداثة أو معاصرة بقدر ماهو معالجة عميقة للحظة التي تقتضي من المبدع استيعاب الشروط التاريخية .
العدد 1185 –16-4-2024