أكثر أشكال الاستثمار انتشاراً في بلدنا هذه الأيام هو “الاستثمار في الشكوى”.
ومهما بدا هذا المصطلح غريباً ونافراً، إلا أنه واقعي وينطوي على توصيف دقيق لواقع الحال في بيئة الأعمال بشطريها الخدمي والإنتاجي، بل ويمكن أن يلمس أي متابع أن ثمة استثمارا في الصراخ لامجرد الشكوى، وهي حالة مريبة بالفعل لها مالها من مؤشرات ودلالات غير مطمئنة.
الصناعي يشكو من ارتفاع تكاليف الإنتاج ويدفع بأدلة وأمثلة من كل شكل ولون، والتاجر يعلي الصوت من ارتفاع تكاليف إيصال السلعة إلى المستهلك، وكافة مقدمي الخدمات من شركات ومهنيين وحرفيين يصرخون من تراجع جدوى أعمالهم، والأطباء عموماً – مع نقاباتهم لم ينسوا حجز أدوار لهم في جوقة الصراخ وهم يجلدون مرضاهم بفواتير كاوية، وفي المحصلة المواطن – المستهلك النهائي للسلعة والخدمة – يصرخ ويستغيث، ولعله الوحيد المحق في شكواه وسط بيئة اختلطت فيها الأوراق بشكل غير مسبوق.
لكن اللافت والمريب أن كل “الصارخين” من صناعيين ومنتجين عموماً وتجار ومهنيين وحرفيين وأطباء، يحققون نمواً صاروخياً في ثرواتهم وعائدات أعمالهم، على إيقاع اسطوانات الشكوى والتظاهر بالخسارات المتوالية التي سترغمهم على الانكفاء وعدم الاستمرار.
ارتفعت التكاليف وهذا صحيح، لكن أيضاً ارتفعت فاتورة الأسعار التي يتكبدها المستهلك لقاء سلعة أو خدمة، ولم يكن أحد الصناعيين والتجار ولا الحرفيين “فاعل خير” أو متطوعا في خدمة مجتمع مأزوم، رغم أن جميعهم يحاولون التدثُر والظهور بأثواب الفضيلة والتفاني في السعي لتعميم فعل الخير والإحسان.
كنا نظن أن مربي الدواجن سيغلقون مداجنهم عندما انخفضت أسعار الفروج، لكن عدد المستثمرين في هذا المجال في ازدياد مضطرد، كما كنا نظن أن المنشآت الصناعية ستغلق أبوابها عندما تم إلزام أصحابها بآليات تحصيل ضريبي دقيقة وملؤوا الدنيا ضجيجاً بالشكوى، لكن هذه المنشآت تزدهر وتعمل وتربح وتتوسع في نشاطها.
ومثلهم التاجر والطبيب والحرفي وكل من يقدم سلعة أو خدمة..الجميع يعمل ويكسب لكنه لم ينس الصراخ بصوت عال في وجه المواطن وتحميله “المنيّات تلو المنيّات” رغم أن الأخير يدفع فاتورة كافة الأزمات المزعومة من هؤلاء بصمت.
اليوم بات الموقف بحاجة إلى حسم لأن المشهد مشهد فوضى لايجوز أن تستمر.
الحسم بتدخل كافة الجهات ذات الصلة من وزارات ونقابات لتحديد التكاليف الحقيقية لكافة السلع والخدمات..وتحديد هوامش الأرباح بدقة، وعدم ترك الخيار للصارخين الذين يجنون الأرباح الفاحشة ويحصنون أنفسهم من المساءلة وإجراءات الضبط بالشكوى و”النق”.
نهى علي