الثورة – رفاه الدروبي:
رحل جسداً وبقيت شجاعته وجسارته الفلسطينية شاهدة على حضوره الآسر بين عشيرته الثقافية، لذا نظَّمت الأمانة العامة لاتحاد الكتَّاب والصحفيين الفلسطينيين وأكاديمية دار الثقافة حفل تأبين لفقيد الأدب والفنون الفلسطينية الشاعر والروائي والسينمائي
وليد عبد الرحيم.
الدكتور حسن حميد رأى أنَّ الحضور البهيَّ يُعزِّز دور الثقافة والكلمة المسؤولة، ويُخلِّد مكانة الرموز ذات القامات العالية، بعد أن ارتقت أرواحهم إلى السموات العلا كالمقاوم وليد عبد الرحيم مُتخطِّياً عتبة الأربعين يوماً، سائراً على درب الكبار كغسان كنفاني وأبي علي مصطفى، فسرى شعره وأدبه على ألسنة المقاومين وسمعناهم وهم ينشدون: بلادي بلادي، ورأينا رقص شجر فلسطين في ساحات البيوت يضيء العتمة ومقابر الشهداء، وشاهدنا بقية حلمه على صفحات رواياته وصوره وشجاعته ونبله عندما جلسنا معه مرات مرات يروي قصص عشقه للمخيم.
مسؤول الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الخارج عمر مراد لفت إلى أنَّ عبد الرحيم كان جريئاً بنقده إلى حدِّ الهجاء والإدانة. لا أحد عنده فوق النقد ويريد الأفضل دائماً كما أراد أن يكون حراً، ثائراً، مبدعاً، ناقداً. رفض مأساة “رجال تحت الشمس، وشجر من الخيزران” رغم قناعاته بأنَّ لا كرامة لامرئ خارج وطنه، وليس حيواناً أو مُحابياً أو منافقاً. إنَّه عزيز ونبيل ومبدع، وكان يسترشد بمقولة محمود درويش: لو على حجر ذبحنا لن نقول: نعم.
بدوره أمين سر اتحاد الكتَّاب والصحفيين الفلسطينيين قال: إنَّه فارسٌ ترجَّل. كان يؤمن بأنَّ الاتحاد بيت الثقافة الفلسطينية، ويستوعب الفعاليات كاملةً. فارق الحياة في أدقِّ مرحلة من مراحل النضال فاكتحلت أعين المناضلين في معركة طوفان الأقصى. آمن بتلازم المقاومة والقلم وطلقة البندقية من أجل مواصلة الكتابة لفلسطين وللوطن العربي.
من جهته أشار أبو علي حسن عضو اللجنة المركزية في الجبهة إلى أن كتاباته جسَّدت العلاقة بين الإنسان والوطن، والكفاح والاستشهاد، والوعي وتغييبه، وكلٌّ ينسج روايته بطريقته الخاصة. اتسمت روايته أدباً وفكراً وسياسةً فصارت الخيمة لديه رواية، وحق العودة تحوَّل إلى أمِّ الروايات، لذا خرجت كتاباته من سراديب فلسطين ومن رحمها وضلعها فكان عاشقها وابن الزمن الجميل والصعب يوم انحازت البوصلة عن اتجاهها رحلة متعددة الفصول لم تكتمل في أحداثها؛ لكنها اكتملت في وعيه وحماسته ومخيلته فكانت فلسطين محفِّزةً له لإكمال الرحلة حتى يتحقق الحلم لذا تعلَّق بهوية أرضها المقدَّسة.
ثم أضاف أبو علي: إن فلسطين كانت الرئة الثالثة المختزنة في شهيقه وزفيره فعاش على وقعها لرحلة رواية لم تكتمل، وكان جلّ اهتمامه منصبَّاً على تجسيد الطاقة الكامنة لدى الشعب الفلسطيني في فيلم قصير كما أراد تصوير العلاقة بين الفلسطيني والأسير والسجَّان السالب للأرض. كان يبحث في التاريخ لأنَّ بلاده تملك قوة الحضارة فأنجز رواية “لست حيواناً” الحاملة في مضمونها من الفانتازيا الكثير الكثير، إنها رواية مختلفة عن المألوف وفيها قدر من القسوة والألم تحتوي رمزية صعبة وطلاسم غامضة، موضِّحاً بأنه تجاسر على المزج بين الفانتازيا وحركة الواقع فروى أحداث صبرا وشاتيلا في لبنان، وأدخل الشعر في عناصر الرواية القاسية ليدرك القارئ معنى أنه إنسان وليس حيواناً. عبارة تتكرر على لسان الأسير الفدائي في سجون الاحتلال: لمَ فعلت هذا ياحيوان؟ فيجيبه بأنه ليس حيواناً.
من جانبه سامي سماحة من بيروت قال: إن وليد شقَّ دروب المجد في سماء الوطن، وحلَّق مناضلاً على متن النجوم، وهناك في عليائه عمَّر المدن الثلاث: دمشق والقدس وبيروت، وسافر على متن رصاصة إلى عمان، ولم ينسَ أن يتحصَّن بجنائن بابل المعلَّقة. إنه وليد القضية، المسكون برائحة تراب فلسطين والمُبلَّل بعرق المناضلين منذ يسوع الإنسان إلى آخر شهيد سقط عليها. رأى في روايته ثلاثة رجال في ثلاثة أماكن في اللحظة ذاتها. كان مستعجلاً دائماً لأنه يعلم أنَّ العمر قصير لا يتسع للكثير من طموحه، وأنَّ المعوقات أقوى من مخارج الإنتاج فكم تمنى لو أنَّ ساعات اليوم أطول والضوء أكثر فكان الرجل المتعدد الصيغات، وكانت فلسطين تعني له كلَّ ذرة من ترابها من البحر إلى النهر.
وفي كلمة ابنته روز عبر الرحيم ثمَّنت دوره وأهميته في حياة أسرته، مبيِّنة بأنَّ أيَّة مفردة في قاموسه لم تكن مجَّانية بمعناها ودلالاتها، وكذلك كانت مواقفه الشجاعة إذ كلَّفته غالياً إن كان فيه صحته أو في علاقته مع الآخرين، مُنوِّهةً بأنَّ وليد الأديب لا يختلف عن وليد الإنسان، بل يتماهى معه إلى أقصى حد، عطاءً وحناناً وعطفاً، جعله أقرب إلى الصديق منه إلى الأب، فآمن بالحوار، وحق الاختلاف، وصراع الأجيال، وحق تقرير المصير على المستوى الشخصي والعام، وبأنَّه علَّمهم قيماً وخصالاً سترافقهم مدى الحياة، وكيف يستحضرون وطناً بعيداً ينتمون إليه.