الملحق الثقافي- رفاه الدروبي:
يُعتبر الروائي حنّا مينه واحداً من الكتّاب الأوسع انتشاراً في العالم العربي. إنه غابرييل غارسيا ماركيز السوري. أبحر برواياته ورفع أشرعة سفنه صامداً في وجه الريح العاتية.
امتلك مفهوماً علمياً
أستاذ الأدب الحديث والمعاصر في جامعة دمشق الدكتور غسان غنيم بيَّن أنَّ الروائي حنّا مينه كان يرى أنَّ الكلمات مواقف فكأنه كرماني شاعر تيمورلنك، وحياته تشبه حياة مكسيم غوركي عندما قال: «إنَّ الحق في شرف الكلمة»، شعار رفعه على سارية عالية، فلم تكن كلماته إلا سلوكاً ومواقف عاشها وعاشته، وبقي مناصر الفقراء دائماً باعتباره كان منهم، وعرف عذابات حياتهم، فتوحَّدت حياته بين الكلمة والفعل، مُنوِّهاً إلى أنَّه الفنان وإن امتلك مفهوماً علمياً يظل على مبعدة إلى الأمام في تخيُّله صيرورة الأشياء. يحلم. والحلم زاده يسبق الحاضر في استشراف الآتي وواقع من يقبض على الشمس، وكاحتفائه بالشاعر ناظم حكمت عندما كان يقول معه: «إن لم أحترق أنا وتحترق أنت ونحترق نحن، فمن ذا الذي ينير هذه الظلمات؟!» كذلك كان مينه كالشاعر الفرنسي بول إيلوار لأنَّه يُبشِّر بالحرية، عندما سجد لجلالها ومرساها كأيقونة حبٍّ جديرة بالعبادة.
وأشار الدكتور غنيم إلى أنَّه كان واقعياً معجوناً باشتراكية تتسلَّل في ثنايا فنه موقفاً فلسفياً لتضمنه الحياة من دون أن تفرضه على فنه وجمالياته، بل تقدّمه وعياً صحيَّاً، ينير دروب الحزانى التائقين إليه. واعتبره بحاراً رست سفينته ليشعل «مصابيحه الزرق» وليؤثر «العاصفة» دون أن تكسر شراعه بعد أن» شقَّ سبيله» الروسي غوركي عبر عواصف خلعت «النافذة» ليدخل منها الثلج»، بينما كان المورستلي يُلقي «بالياطر» إلى شاطئ السكينة معه، ويتلقَّف بقايا صوره الصابغة أيام الحاضر بمآسي الماضي، ولتنضح من الذكريات عن عمرٍ مارٍّ في «المستنقع»؛ ولكنَّه علم أنَّ الحياة أقوى ولا بدَّ من أن تشرق «الشمس ولو في يوم غائم»، وأن الغيم زائل. وها نحن نسترجع في «المرصد» شمسنا المشرقة بعد خسوف ومعه ارتفعت رؤوسنا نحو أشعتها مع «النقيب م» و»المقدم ح»، و»الملازم ن» لكن حياة دمشق لم تنسه البحر وحكاياته، «حكاية البحار» العتيق، والدفل» و»المرساة»، و» المرفأ البعيد»، و»حكاية ذاك الرجل الشجاع»، وماعاناه من صراعات المرفأ؛ لكنَّه خرج بانتصار نفسي معنوي، وخسارةجسدية لم تكسره «كشيخ همنغواي»، وفرح بنضاله من أجل الحق والحبِّ والحرية، وكرَّت السُّبحة مستغرقاً في الذكريات لتنضح نبعها؛ لكنَّ نبع الذكريات جموم. إلا أنَّه لم ينسَ الواقع، وفي منفاه، ذاق طعم الربيع، وجرَّب الخريف وشدَّته «الأبنوسة البيضاء» ليحكي تحتها قصصاً عن عذابات البسطاء وآمالهم وأفراحهم البسيطة من أجل أن يعزف بعدها نهائياً عن قصِّ الحكايات القصيرة دون نسيان هواجسه المازج فيها بين تجارب الحياة والرواية والحكي.
حقق معادلة الحضور
بدوره الدكتور عبد الله الشاهر عرَّف حنا مينه بأنَّه علمٌ من أعلام الرواية العربية؛ وليس فقط الرواية السورية، ومن أبرز الروائيين العرب لإنشائه سرداً روائياً واقعياً تمثَّل في بنية اجتماعية ومكانية ذات آفاق مفتوحة على المستقبل من خلال أحداث الواقع، وحقَّق معادلة الحضور على مفاتيح السطور، فبنى سرده الروائي على إشكالية الواقع والتداخلات الاجتماعية عبر فضاء مكاني مهَّد له ووضع أسسه ببنائية فاعلة من خلال الشكل البنائي، حاجزاً مكان الصداره في الرواية العربية. كما أنجز مايزيد على الأربعين عملاً روائياً استطاع من خلالها أن يُحقِّق عوامل عدة في بنية الرواية باعتبارها سمة أساسية من سماتها، المتحمورة حول الرجولة في كل أعماله، إذ برزت في شخصية البطل الروائي الشهامة والشرف والتركيز على العادات والتقاليد واحترام المجتمع.
والأمر الثاني: في أغلبية أعماله كان البحر حاضراً حضور فعل وأفرد له مجالاً واسعاً في سرده الروائي، أمَّا أسلوبه فكان واقعياً سواء بشخصياته أم بالمكان والفضاء الروائي بشكل عام. إنَّ ما يُمثِّله حنا مينه دخوله عالم الرواية بجدارة وتسيُّده في مجالها، لذا نعتزُّ بنتاجه كونه محطَّ إعجاب وإبهار الجميع، وسيبقى خالداً في أعماله الكبيرة.
أنت بصحبة ..حنا مينه!
من جهته الدكتور حسن حميد أوضح بأنَّه قبل نحو خمسة عشر عاماً، كان عرَّاب زيارة حنا مينه إلى ندوة كبرى في العاصمة الأردنية عمان، دارت فعالياتها، ولأيام ثلاثة (صباحاً ومساءً) حول آفاق السرد العربي، وأسئلة تلفّه، ما إن كان مشهدية أو صورة واحدة تشير إلى حضوره عربياً، أو تمثله عالمياً بوصفه حالاً واحدة تُعبِّر عن الخط البياني لتطور السرد ذاته، مثلما تعبر عن أهميته، وتساءل أين البؤرة الأكثر جمالاً وتنوعاً، أهي في مصر، أم في بلاد الشام والعراق، أم في المغرب العربي أم في الخليج العربي، وما القضايا الجوهرية، وهل من مثاقفات بادية مع معطيات السرد العالمي، وما وجوه التأثير والتقفي؟.وخصِّص يوم من أيام الندوة، المدعو إليها كتَّاب السرد ونقَّاده من بلاد عربية عدة لأدب حنا مينه والتعمُّق بجمالياته، ومواضع القوة فيه، واتجاهاته، وترجمته إلى لغات أخرى.
ثم أردف الدكتور حميد بأنَّه هاتف الروائي حنا مينه، وسأله عن حضوره إلى الأردن لأنَّ محبوبيه يريدونه لأنَّهم أعدوا لندوة مهمة حول السرد العربي، مدتها ثلاثة أيام، أحدها مخصص لأدبه. فقال: من سيتحدث عن رواياتي، فذكرت له الأسماء المرشحة، ولم يرتح لها، وقال لي: جيد، إلا عندما ذكرت له اسم الدكتور فيصل دراج، فوافق. وكان معنا الدكتور عاطف بطرس ليشارك في الحديث عن أدبه.
وما إن وصلنا إلى عمان، إلى الفندق، حتى هرع الجميع لاستقباله، منهم من أراد السلام عليه ومصافحته، ومنهم من أراد النظر إليه، ومنهم من راح يسأله عن صحته، وعن تعب السفر، وعلا الضجيج حوله، في داخل صالون الفندق. وفجأة ثار غضبه لأنه ما عاد يعرف مع من يتحدث، وعلى من يردُّ من أصحاب الأسئلة، وإلى أين ينظر، فطلب الصعود إلى غرفته، وبينما كنت جالساً أُشاهد الرائي جاءني أحد الأدباء، وقال لي: اِلحق حنا مينه يريد العودة إلى الشام، فوجئت فعلاً فتركت المشاهدة، وذهبت إليه، وأمام غرفته التقيت أحد الأدباء، فقال بأسى: لقد ذهب! قلت: كيف؟ قال: سافر! وعرفنا فيما بعد، أنه ومن لحظة صعوده إلى الغرفة، لم يفتح حقيبته، وإنما استخدم الهاتف، وطلب سيارة للعودة إلى دمشق مباشرة.
فعلاً عاد في السيارة وحيداً، تركني، وترك الدكتور عاطف بطرس كان يريد أن يعود معه أيضاً، لكنه لم يقبل، قال له: تابع ندوتك.
وحين عدت من الندوة إلى دمشق، وكانت مهمة في كلّ شيء، ونوعية في محاضراتها وحواراتها وتوصياتها، سألت حنا مينه عن سبب غضبه وعودته المفاجئة، فقال: أكانوا يعرفون، ويقصد المشرفين على الندوة، بموعد وصولي، قلت: أكيد. قال: وهل تشرف وزارة الثقافة الأردنية على الندوة؟ قلت: نعم. قال: وأين وزير الثقافة، لم أره، لم يكن في استقبالي، ومن يعرفه، ومن سيذكر اسمه بعد أن يترك منصبه. فهززت رأسي. قال: ديغول كان يُجلس أندريه مالرو على يمينه، لأنه أديب، وليس لأنه وزير ثقافة. وعندما سألوه لماذا يفعل مافعل، ولا يجلس رئيس الوزراء أو وزير الخارجية على يمينه؟ قال ديغول: لعلي على خطأ، فالصحيح هو أن أجلس أنا إلى يمينه لأنه يُمثِّل ثقافتنا وأفكارنا وأحلامنا، والثقافة تُمثِّل الخلود الأبدية. إن أمثاله من أهل الرّتب، كان نورانية في أدبه، ومواقفه، ومحبته.
العدد 1186 –23-4-2024