الملحق الثقافي- جوليا علي:
(قصائد الشاعرة مرشدة جاويش أنموذجاً)
بقدْرِ ما تلْفتُنا عَنوَنةُ النصوص، باعتبارها الجاذب الأوّل للمتلقّي، بقدْر ما تستوقفنا- أيضاً- النصوص التي تُطالِعنا، بلا عنوان، كما العديد من قصائد الشاعرة مرشدة جاويش- على سبيل المثال- وذلك بقصدٍ منها، لاحتمالات عديدة:
١- ليكون (الاستهلالُ) كلّه هو العنوان، بحيث تُحَمّلُه ما لا تحتمله عَنوَنةٌ؛ كأنْ تُطلِقَ يداً أطولَ للمجاز، والترميز، والبيان، وتكثيف العبارات بانزياحات دلاليّة وتركيبيّة، كما في استهلال هذه القصيدة، التي تجاوزت فيها الشاعرة العتبةَ العنوانيّةَ إلى استهلالٍ أرْحَب:
«سطرٌ على وجع الخيالِ يشدّني
رقصُ الظلالِ المدلهمّة
والكرى
بعد الصلاةِ ليقظتي يلتفُّ زناراً بخصرِ تضرّعي
قد جرّ قطعانَ النهار لسخرةٍ
في حفل مأتميَ الشهيّ».
٢- لِهَيكَلَة ما يمكنني تسميتُه بِ(النصّ العنوان)؛ بمعنى أن يكون النصّ كلّه عنواناً، كهذا النصّ:
«كلّما مرَّ ولم أعرفني
باحتراقي قبلةً في خدّ ريح..
حمل النارَ التي حطّت على غصن ناي القلب في وجع الخريف..
ياسليلَ الحالةِ القصوى بمأدبة الجنون..
عرشُ المرارة فوق أشجاري
وأشجاني البتول..
تتراقصُ الأنداء في جفنيّ …
دمعةَ أرجوان
بين كسْرِ القلب والنوءِ المعاندِ شاطئ الرؤيا على موج العيون..
فاحمٌ ماكان أخضرَ
يستبيحُ النأي عن مجرى الحروف..
لغةً تُحيلُ الغيمَ ألغاماً
فينفجر البياضْ..
هو والمنايا جاثمان على سرير الوهم في غبش احتمال..
أتفكّ أزرارَ الرغائب!؟
من عروة الأمل المكفّن بالغناء..
وقطيعُ طلعِكَ قد تناهبه الرجاء..
كخطيئةٍ قامت تنفّضُ عارَها بالأدعياء..»
فما أنِ اندلعَ (الاستهلالُ) مستفزّاً حواسّ المتلقّي بوهج المقاصد:
«كلّما مرَّ ولم أعرفني
باحتراقي قبلة في خدّ ريح..
حمل النارَ التي حطّت على غصن ناي القلب في وجع الخريف..»،
حتّى اتّقَدَ (المتنُ) بما احتَطبه (الاستهلالُ)، فتأجّج النداءُ واستَعَر:
«يا سليلَ الحالةِ القصوى بمأدبة الجنون..»،
وجاءت (القَفْلةُ) جمرَاً يتقلّب عليه السؤال:
« أتفكَّ أزرارَ الرغائب!؟
من عروةِ الأمل المكفن بالغناء..
وقطيعُ طلعِكَ قد تناهبهُ الرجاء..
كخطيئةٍ قامت تنفّضُ عارَها بالأدعياء..».
للشاعرة قصدها في «لا عَنونَة» القصيدة أعلاه، لربّما شاءت أن تُطلِقَ رؤى المتلقّي إلى أبعد ممّا قد تقيّده أيّةُ عَنوَنةٍ، فصَيّرت النصَّ كلّه عنواناً.
٣- للتحكّم بالنزعة التأويليّة للمتلقّي، كما في هذه القصيدة:
« ما بالُ ذاك الواقفِ على
حدود جراحيَ النازفات
سنيَّ جمري
ينازعُني قميصَ أسَلي الوردي؟
تتهالكُ
قسمات حروفي
حينما ألعنُ
سطورَ جنوحِهِ الشَّقاقةِ الطفولة
على
أرائكِ دفاتري الشاردة
من بين أناملِ أقلاميَ الراقصة
في
حضنِ انكساراتيَ العتيقةِ الاشتهاءات
لرَفَّةِ حُلم سكون
يحتلُّ انفاسي
على شفةِ ندائهِ العذبِ الجنون
.. وما بالي؟
أسرقُ بكارةَ ليلي
من مخدعِ انطفائي
لأوقدَ حشرجاتِ
نافذةِ انتظار
هذرِ عُريِّ فجرٍ أغواني
دونَ أن يتذكّرَ عنواني..
يا كلَّ المسافاتِ هلمِّي
انتحري في أحضاني
أُشمُّه ، يبعثرُني
ألمُّه ، يضيعُني
أكونُه ، يرسمُني
أضمُّه ، يبددُني
يا كلُّ المتاهات
أنقذيني ….. من غربة أكواني
من ذاتِ البسمةِ المسكونة
بوعودِ النار … في أجفان أغصاني
هل أوصدُ بوابةَ العصفورِ الشهيد
على أعتاب شهقتي الوليدة ؟
هناك.. رعشة
في نهاياتِ أسئلتي
العطريةِ القناديل»
في هذا النصّ، غير المُعنوَن، ألغت الشاعرة العتبةَ العنوانيّة، في محاولةٍ ذكيّة منها لِلتّحكّم بالنزعةِ التأويليّة للمتلقّي، بحيث تضعه مباشرةً في مواجهة السؤال، فجاء (الاستهلال) سؤالاً يُضرم (المتنَ) بسؤالٍ، وترتعش (القفلةُ) بنهايات أسئلةٍ عطريّة القناديل:
– «ما بال ذاك الواقف على حدود جراحي النازفات»/ استهلال
-» .. وما بالي؟ أسرق بكارة ليلي من مخدع انطفائي»/ مَتن
– «هناك.. رعشة في نهايات أسئلتي عطرية القناديل»/ قَفلة
«لاعَنونَة» النصّ هنا، ليست بغرَضِ ألّا يضيق النصّ بالعَنوَنة، وإنّما بغرض زجّ المتلقّي في أَتُّون النصّ، لإلزامه بترقّب الجواب منذ الاستهلال بالسؤال: (ما بال؟)، بحيث جعلت النصَّ كلّه أسئلةً وجوديّةً تضطرّ المتلقّي إلى الإجابة عنها، أو على الأقلّ، إلى التفكُّر بقناعات الشاعرة، أي موقفها من الوجود، وما خلصتْ إليه أسئلتُها.
وثمّة احتمالاتٌ عديدة أخرى لِ (لا عَنونَة) النصوص الشعريّة الحداثويّة، عند الشاعرة مرشدة جاويش، وغيرها من شعراء الحداثة وما بعدها.
العدد 1186 –23-4-2024