الملحق الثقافي- حبيب الإبراهيم:
شكّلت قضية فلسطين أحد أهم محاور الإبداع لدى الشعراء والأدباء العرب منذ النكبة في 15آيار عام 1948وحتى يومنا هذا، وبالكاد تخلو مجموعة شعرية أو قصصية أو رواية دون التطرق للقضية الفلسطينية، قضية العرب المركزية والتي تمتد لـ76عاماً، قدّم خلالها الشعب الفلسطيني على وجه الخصوص، والشعب العربي في سورية ولبنان و… آلاف الشهداء من النكبة إلى طوفان الأقصى.
لقد شكّلت النكبة وجعاً وحزناً وأسى على الصعيد الرسميّ والشعبيّ، لتبدأ موجات التهجير والإبادة وتهويد الأراضي وحياة المخيمات، ومرارة التشرد في كل أصقاع الأرض، وهذا ما دفع الشعراء والأدباء إلى تبنّي مواقف وطنية وقومية مناصرة وداعمة للشعب الفلسطيني، وحقه في العودة إلى أرضه ودياره، وبناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
وجميعنا قرأ في منهاج الثانوية بحوثاً عدّة كانت مقرّرة في مناهج وزارة التربية في سورية، حول القضية الفلسطينية والأدب الملتزم، أو ما يعرف بأدب المقاومة والكفاح المسلح لنيل الحقوق وتحرير الأراضي المغتصبة.
لقد عاش الأدباء الفلسطينيون المآساة واجترعوا مرارة النكبة من تشرد وجوع وفقر وفقد وحرمان، لذلك كانت أشعارهم وقصائدهم وكتاباتهم أكثر تعبيراً عن معاناة الشعب الفلسطيني، أمام المجازر والقتل الممنهج والتهجير القسري لآلاف الأسر، التي أصبحت في العراء أو في الخيام، حيث نُصبت في أطراف المدن العربية، لكن حلم العودة لم يفارق أي فلسطيني يأمل أن يعود إلى بيته وبيارته مع أسرته وأهل حيّه وقريته.
وهذا ما عبّر عنه الشاعر عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) في قصيدته (سنعود):
(غداً سنعود والأجيال تصغي إلى وقع الخطى عند الإياب
نعود مع العواصف داويات مع البرق المقدس والشهاب
مع الأمل المجنح والأغاني مع النسر المحلق والعقاب
مع الفجر الضحوك على الصحارى نعود مع الصباح على القباب
مع الرايات دامية الحواشي على وهج الأسنة والحراب
ونحن، الثائرين بكل أرض، سنصهر باللظى نير الرقاب)
وبمسحة من الحنين يخاطب الشاعر يوسف الخطيب عندليباً مهاجراً عن بلده وأهله وناسه، يسأله عن ذكريات مضت، يسأله عن داره التي تركها قسراً بفعل الاحتلال، يسأله ُ معاتباً
(عجباً.. تراك أتيتنا من غير تذكار
لو قشة مما يرف ببيدر البلد
خبأتها بين الجناح وخفقة الكبد
لو رملة من المثلث أو ربا صفد
لو عشبة بيد ومزقة سوسن بيد
أين الهدايا مذ برحت مرابع الرغد
أم جئت مثلي بالحنين وسورة الكمد)
ويخاطبه مؤكداً أن العدو والاحتلال مهما طال أمده فإنّه زائل لا محالة، وستبقى تلك الديار ببهائها وجمالها نبضاً لا يتوقف،
ونجوى لكل عاشق ٍ لأرض فلسطين، يتابع الخطب قائلاً :
(ماذا رحيلك أيها المتشرد الباكي
عن أرض غابات الخيال وفوحها الزاكي
أم إن مرج الزهر أصبح قفر أشواك
وتلوّنت أنهارها بنجيع سفاك
داري وفي عيني والشفتين نجواك
لا كنت نسل عروبتي إن كنت أنساك)
كان للأدب دور مهم في إثارة الجماهير العربية والتي أصيبت بالخذلان من هول النكبة والنكسة، وخاصة الشعر حيث ظهر ما يعرف بشعر الثورة والأدب المقاوم لدى الأدباء والفنانين الفلسطينيين مثل :إبراهيم طوقان، عبد الرحيم محمود، توفيق زياد، سميح القاسم، محمود درويش، عز الدين المناصرة، غسان كنفاني، ناجي العلي …. والعرب مثل عمر أبو ريشة، نزار قباني، سليمان العيسى،… وغيرهم ممن تبنّوا القضية ودافعوا عنها ونقلوا بصدق وشفافية ما يعانيه الشعب الفلسطيني سواء داخل الأراضي المحتلة أو في الشتات، مؤكدين أن درب الحرية والمجد لا يكون إلّا بالكفاح المسلّح ومقاومة المحتل الغاصب وهذا ما عبّر عنه الشاعر عمر أبو ربشة في قصيدته (في سبيل المجد) حيث يقول:
(في سبيل المجد والأوطان نحيا ونبيد
كلنا ذو همة شماء جبار عنيد
لا تطيق السادة الأحرار أطواق الحديد
إن عيش الذل والإرهاب تأباه العبيد
لا نهاب الزمن أن سقانا المحن
في سبيل الوطن كم قتيل ٍ شهيد)
أما الشاعر خليل زقطان رغم عدم شهرته كغيره من شعراء النكبة، فقد حضّ على التمرد والثورة على المحتل الصهيوني الذي جعل من حياة الفلسطينيين مأساة طال أمدها…
(يا أخي أنت معي في كل درب
فاحمل الجرح وسر جنبا لجنب
قد مشيناها خطى دامية
أنبتت فوق الثرى أنضر عشب
نحن إن لم نحترق، كيف السنى
يملأ الدنيا ويهدي كل ركب.؟)
أما شاعر الطفولة والعروبة الكبير سليمان العيسى فقد كانت قضية فلسطين حاضرة وبقوة في شعره ومواقفه القومية، ومناصرة الشعب العربي الفلسطيني في ثورته وكفاحه المسلح، لاستعادة الحقوق وتحرير الأرض، والتي عبّر عنها من خلال نشيد (فلسطين داري) والتي كانت مقرّرة في الصف الأول الإبتدائي، وغرس قضية فلسطين في عقول وأفئدة ملايين الأطفال لتبقى حيّة نابضة في قلوبهم الفتيّة حيث يقول =:
(فلسطين ُ داري ودرب ُ انتصاري
تظلُّ بلادي هوىً في فؤادي
ولحناً شجيّا على شفتيّا
وجوهٌ غريبة بأرضي السليبة
تبيع ُ ثماري وتحتل ُ داري)
كلّ الطرق اختصرها الشاعر نزار قباني في قصيدته (طريق واحد)، طريق البندقية والمقاومة والثورة على المحتل الصهيوني الغاصب، حيث الوطن المحاصر والهوية الضائعة والأحلام المسروقة :
( أصبح عندي الآن بندقية
إلى فلسطين خذوني معكم
إلى ربىً حزينة
كوجه المجدلية
إلى القباب الخضر
والحجارة النبيَّة
عشرين عاماً وأنا أبحث عن أرضٍ وعن وهوية
أبحث عن بيتي الذي هناك
عن وطني المحاط بالأسلاك
أبحث عن طفولتي
وعن رفاق حارتي
عن كتبي
عن صوري
عن كل ركن دافئٍ
وكل مزهرية)
أما الشاعر المصري محمود طه فقد كتب لفلسطين الكثير من القصائد، التي تشحذ همم العرب لنصرة قضية فلسطين وشعبها، وقد تحوّلت تلك القصائد إلى أناشيد يتردد صداها على امتداد الوطن العربي:
(أخي جاوز الظالمون المدى.. فحقَّ الجهادُ وحقَّ الفدا
أنتركهُمْ يغصبونَ العُروبةَ.. مجد الأبوَّةِ والســـؤددا؟
أخي أيها العربيُّ الأبيُّ.. أرى اليوم موعدنا لا الغـدا)
وفي قصيدته (تقدّموا) يطلق الشاعر سميح القاسم صرخته المدويّة في وجه العدو الغاشم الذي لا مفر له من الاستسلام والهزيمة أمام أبطال المقاومة :
(تقدموا
كل سماء فوقكم جهنم
وكل أرض تحتكم جهنم
تقدموا
يموت منا الطفل والشيخ
ولا يستسلم
وتسقط الأم على أبنائها القتلى
ولا تستسلم)
لقد حمل الشاعر محمود درويش، أيقونة فلسطين كما يُطلق عليه، قضية وطنه، قضية فلسطين إلى العالم، وقدّمها عبر مواقفه وأشعاره التي تؤكد الحق في مقاومة المحتل بكل السبل، وصولاً إلى تحرير الأرض والتي يقول في أشهر قصائده:
(على هذه الأرض ما يستحق الحياة
أيها المارون بين الكلمات العابرة
احملوا أسماءكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا وانصرفوا
وخذوا ما شئتم من زرقة البحر و رمل الذاكرة
وخذوا ما شئتم من صور كي تعرفوا
أنكم لن تعرفوا
كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء
أيها المارون بين الكلمات العابرة
كالغبار المر مروا أينما شئتم ولكن
لا تمروا بيننا كالحشرات الطائرة
فلنا في أرضنا ما نعمل
ولنا قمح نربيه ونسقيه ندى أجسادنا
ولنا ما ليس يرضيكم هنا..)
وبالرغم من كل ما أصاب القضيّة من هنات وخيبات وانكسارات ونكسات، بقيت راية الحق مرفوعة ومستمرة بصمود الرجال والنساء وتضحيات الشهداء، فاستمرت شعلة المقاومة ومقارعة المحتل بالبندقية والحجارة والمِدية و(المقلاع) و…. فكانت انتفاضة الحجارة الأولى والثانية وكانت ملاحم الصمود والمواجهة في غزة التي قلبت موازين القوى من خلال عملية طوفان الأقصى التي شكلت نقلة نوعية في عمليات المقاومة الفلسطينية، وحشد الرأي العام العالمي لنصرة قضية فلسطين، ورغم حجم الدمار والمجازر، التي طالت مدن وقرى قطاع غزة، فإن الشعب الفلسطيني المقاوم ومعه شعوب ودول المقاومة ماضٍ في مسيرة الكفاح والنضال، حتى تُشرق شمس الحريّة على فلسطين، وترفرف رايات النصر في مدنها وقراها وروابيها، وإنّ نصر الله لقريب.
العدد 1189 –14-5-2024