الملحق الثقافي- نداء الدروبي:
تستوقفنا أعمال الفنان عبد المنان شما كونه من الرعيل الثاني، وأحد تلامذة الكبير (صبحي شعيب)، حيث تناول المناظر الطبيعية من المدن والأرياف والمقاهي الشعبية ببساطتها ورؤاها في منتصف الستينيات والسبعينيات الفترة المُسمَّاة الذهبية للفن السوري، إضافة إلى وجود قسم من الرعيل الأول الذين أنتجوا أفضل أعمالهم مثل التشكيلي (نصير شورى) إذ ظلَّ حتى التسعينيات، كذلك الفنان (محمود حماد) إلى عام ١٩٨٨، وكان لدور النقابات ووزارة الثقافة أهمية كبيرة، إذ عمل مبادرة مع زملائه لإنشاء اتحاد الفنانين التشكيليين العرب حينما تمَّ اللقاء بينهم وبين السيد الرئيس الخالد حافظ الأسد، وطلب منهم جمع الطاقات العربية. وبالفعل تواصل كلُّ فنان مع زملائه من الدول المجاورة وقدَّموا معرضاً رائعاً.
قال الفنان عبد المنان: (نحن جميعاً في عملنا الفني نخدم الوطن والجمال).
وهكذا يعود فناننا بذاكرته إلى الوراء قليلاً ليروي لنا بداياته الأولى مع أستاذه (صبحي شعيب) وأنَّه كان أصغر طالب عنده في الصف السادس ومعه مجموعة من طلاب صفوف المرحلة الإعدادية وبعض الثانوية، ولأن والده كان فقيراً لم يكن يستطيع شراء مواد الرسم له، وفي المقابل كان الفنانان (عبد الظاهر مراد ومروان شاهين) أحد طلاب صبحي شعيب يتابعون الفن معه، بينما كان التشكيلي شعيب يُنظِّم لهم الرحلات الممتعة والمفيدة في عام ١٩٥٠، للتعرُّف إلى الفنانين ونتاجهم الإبداعي.. وكانوا يخرجون منذ الصباح المبكر، ويبدو حرص شعيب عليهم لدرجة كبيرة حينما يأخذ كلُّ طالب من منزل أهله ويعدهم بإيابه عند المساء.
كانت المسافة طويلة تستغرق ستَّ ساعات من مدينة حمص إلى دمشق، ثم ينزلون في منطقة المرجة ويسيرون على الأقدام ليصلوا إلى دار المعلمين، وهناك يُعرِّفهم الكبير صبحي شعيب على كلِّ ركنٍ من أركان الدار، وكيف درس فيه، ومَنْ هم المعلمون المعروفون كأمثال الفنانين: (محمود حماد، رشاد قصيباتي، نصير شورى)، ويروي الفنان عبد المنان شما مدى اندهاشه من الرسومات الكبيرة التي شاهدوها على الجدران وغيرها، والموقَّعة باسم (محمود حماد، نصير شورى، شريف أورفلي، وفنانين آخرين لم يسمع قط بأسمائهم).
حقاً إنها رحلة رائعة كانوا يستمتعون بها مع الفنان صبحي شعيب الذي اصطحبهم معه إلى سطح دار المعلمين ليشاهدوا من هناك روعة مدينة دمشق التي ترعرع فيها الفنان.
حتى انطبعت صورتها في ذاكرته، وعندما انتهوا من الجولة تناولوا غداءهم المتواضع من الحمص والزيت والزعتر في المرجة.
ويتابع عبد المنان شما عن مدى فرحته عندما يرى أهله منتظرين عودته بفارغ الصبر ومدى الفائدة التي جناها من أستاذه الكبير صبحي شعيب، وخاصةً عندما كان يُنظِّم لهم معرضاً في المدرسة ثم ينقله إلى المركز الثقافي العربي في حمص فيرى اللوحات كلُّ شرائح المجتمع من المثقفين والأدباء والكتَّاب ويهتمُّون بها، ويرى أن هذا الأمر بمنزلة انفتاح على عالم جديد لم يكن يراه من قبل.
ومن ميزات أستاذه صبحي شعيب أنه كان يتابع طلابه منذ الصغر حتى تخرُّجهم في المدرسة ويحثّهم على متابعة التعليم الجامعي، وكان الفنان (عبد الظاهر مراد) يساعد الفنان(صبحي شعيب) في عمله.
وهكذا عندما حصل عبد المنان شما على البكالوريا تقدَّم إلى المسابقة بتشجيع منهم حتى ذهب كلُّ فنان إلى دول أخرى لمتابعة الدراسات العليا كمصر وإيطاليا وفرنسا… إلخ.
أما بالنسبة للفنان عبد المنان شما فقد استدان والده نقوداً من زملائه ليشتري له بطاقة السفر ويؤمِّن له مصروف المعيشة كي يدرس الفن في مصر. قال الفنان شما: (كنت شديد الفرحة بدراسة الرسم، إذ كنت أتمنى الدراسة ولو في ضيعة أم شرشوح، وهي اِحدى الضواحي التي كان صبحي شعيب يأخذنا إليها كي نرسم المناظر الطبيعية).
وفي مرحلة الدراسة عام ١٩٦٢ أحبَّ عبد المنان فكرة التدريب الصيفي في السنة الدراسية الأولى، وعندما رجع إلى سورية عمل أول معرض فردي له في المركز الثقافي العربي في دمشق، حضره أهم الفنانين الروَّاد أمثال: (ميشيل كرشه، رشاد قصيباتي، شريف أورفلي، نصير شورى، محمود حماد)، وكانت دهشتهم كبيرة أثناء رؤية أعماله، ثم عرض في جزيرة أرواد وفي طرطوس وحمص، وكان الفنان لؤي كيالي يرافقه دائماً.
قال الفنان: -(أنا فنان مواطن سوري من بيئة تحمل إرثاً حضارياً وأريد أن أستمرَّ في عكس هذا الإرث بفنٍّ مقروءٍ لعامة الناس).
رسم الفنان بألوان تعكس سورية الساحرة، وانتماءه الشديد لكلِّ مشهد في وطنه من البحر حتى الجبل والبادية والمدينة والريف، وأحبَّ أن يكون فنُّه مقروءاً لأكبر عدد من شرائح المجتمع، كما اتسمت أعماله بالواقعية والبساطة والحداثة المختصرة للواقع.
قال الدكتور فؤاد دحدوح: (شما أحد القامات الفنية التي كان لها أثر كبير في الفن التشكيلي السوري).
إنَّ واقعية الفنان عبد المنان شما مشوبة بروح التقاليد الشرقية والتراث الشعبي، وقد وجد طريقه بعيداً عن التيارات التشكيلية الغربية المنساق وراءها كثير من الفنانين العرب دون مراعاة ظروف مجتمعاتهم، كما جسَّد واقع الحياة في دمشق وحمص بأسلوب جمع بين التقاليد الكلاسيكية والفلكلورية، ورصد أزقة المدينة والمقاهي والأسواق الشعبية والأرياف الجميلة والبورتريهات المتضمِّنة البسطاء من الناس، مهتماً في كل ذلك باللون والسطوح.
قال الفنان سعد القاسم: (هو صاحب تجربة فنية ثابتة ورصينة، إذ ظلَّ وفيَّاً للمدرسة الواقعية منذ بداياته، رغم تتلمذه على يد الفنان الراحل صبحي شعيب الذي كان ينتهج التعبيرية).
تخرَّج الفنان في أكاديمية سوريكوف للفنون التشكيلية بموسكو بدرجة امتياز شرف، وحصل على شهادة الماجستير في التصوير الجداري، وشهادة الدكتوراه في الفنون الجميلة من أكاديمية الفنون السوفيتية في موسكو، وكان أول مؤهل علمي عال في مجالات الفنون الجميلة يحصل عليها فنان باحث على الإطلاق، وحقَّق الكثير من الإنجازات الرافدة للحياة التشكيلية السورية بأعمال متميزة من الناحية الجمالية، حتى أصبح الفن جزءاً من كيانه كإنسان يصبو للتعبير عمَّا في دواخله النفسية ومخيلته، وكان من دعائم قوته التقنية تمكُّنه من الرسم، إضافة إلى تمتُّعه بموهبة الملاحظة والجوانب الجمالية الدقيقة المباشرة للطبيعة وموجوداتها، وميله لالتقاط المواقف والحركة الدائرة من حوله وحركة الأيدي والأجسام ونوع القماش والزخارف والأزياء، والإيقاعات وحركة الشخوص والخطوط المتنوعة والسحب وتوليفاتها المنسجمة والأشجار والتناغم بين الألوان الداكنة والفاتحة والظل والنور والدقة في الرسم والوضوح في المعالجة والألوان المتباينة والإضاءة الرحيبة والسماء ذات الألوان الرقيقة.
إنه حقاً فنان استحقَّ تكريم الجامعة له كإحدى القامات العلمية والفنية المرموقة في كلية الفنون الجميلة، واستحقَّ درع الإبداع والتميُّز نتيجة جهوده الفنية والتربوية في بناء الأجيال وخدمة الكلية وجامعة دمشق فلُقِّب بصانع الأجيال.
العدد 1189 –14-5-2024