الشاعر أيمن معروف: كلُّ شيءٍ يخفقُ باسمِ دمشق.. بلادُ الضوءِ والحبّ والقلب.. في العزلةِ.. أسمعُ صوتَ نفسي وأُصافحُ العالم حولي
الثورة- هفاف ميهوب:
يسعى لفكِّ طلاسم الوجود، بموسيقا مفرداته، ويتّخذ له في عالم الشّعر مقاماً، هو مقام العشق الكامنِ في قصيدته.. ينزع عن الإنسان أشواك آلامه، ويضيء الأمل بأناملٍ، تحيلُ الكلمات إلى وردٍ، هو ورد وجدانه..
إنه الكاتب والمترجم «أيمن معروف».. الشاعر الذي قرأ الحياة وإنسانها بكلّ عمق، والذي حاورناه لأسبابٍ كثيرة منها، ما ذكرناه ودفعنا لسؤاله عن بُعد:
من هو «أيمن معروف»؟.. هل أنت كُلّنا؟.. كلّ من نطقتْ قصيدتك، بآلامِ وأحزان وأحلام وقضايا وجودهم؟..
أنا واضحٌ/ أعني الّذي أعنيهِ منْ معنى/ ويذهبُ في سبيلِ اللّيلِ، قَصدي/.. أدنو بلا سببٍ/ وأنأى دونَ عِلْمِيَ في الطّريقِ/ وإنّني في الإنْسِ، ضِدّي/.. إنّي اختلفتُ معَ الوجودِ بما أُريدُ ولا أُريدُ/ منَ الوجودِ وسَيْلِ وَجدي/.. إنّي اختلفتُ معَ اليقينِ وليسَ لي في الشّكِّ/ غيرُ الشّكِّ ما أُخفي وأُبْدي/.. إنّي اختلفتُ معَ الكلامِ لكيْ أراني في الكلامِ/ المُرِّ كيفَ أكونُ، بَعدي/.. أنا كلُّكُمْ في الصّوتِ لكنْ/ في جهاتِ الموتِ والأحزانِ والخُسْرانِ وحدي..
هل يعني هذا، بأنك المسافرُ عبر أرواحٍ تقودكَ إليك، إلى عزلتكَ التي ترى، ماهيّة الحياة والأشياءِ والماوراء؟..
هو سفرٌ وبحثٌ، في الرّوحِ والفكرِ والماهيّة والعزلة..حيث أشعرُ أنّي أكثر من طائرٍ حرٍّ، وأكثر تأهُّباً للضّوءِ، وأكثر التباساً من الكلام، وأكثر من أنْ أتوقّع.
نعم، في العزلةِ أرى ما أرى، وأرى ما لا أرى من نهارِ النّاسِ، ألتقي بي كما لمْ ألتقِ منْ قبل. أسمعُ صوتَ نفسي، وأُصافحُ العالم حولي، وأحتمي بالآخرين وأعانقهم، وهم يمدّون في غابة الليلِ خيوطَ الوشاية، فتكيدُ اللغة وتمكرُ برفيفِها المبهمِ فأكيدُ لها خوفاً عليها منَ التّبعثرِ في عَبَّارةِ الوضوح.
في العزلةِ، أعبرُ بهدوءِ الحالمِ إلى مُدني وقُراي. أعبرُ خرائبي ومواقيتَ حزني.. انتظاراتي وانكساراتي وليلَ ذاتي. أعبرُ أزمنة ولغات وحرائق..
تقول: «ربّما يكون الألم، أهمُّ أداةٍ في الكتابة، ومن أسرارِهِ أنه مستودعُ الأسرار».. يا ترى، ماذا عن أسرارِ الألم في كتاباتك؟..
الألم هو الإلهامُ الذي يقدحُ شرارةَ العالم في الكلمات، أو ربّما، كما يقول «أندريه جيد»، هو القوتُ الأرضيّ الذي تقتاتُ به الموهبة..
هو الحمضُ النوويّ الذي تستمدُّ المفردات يخضورها من إشعاعه، لتحيا أنساغُ النصّ.
الكاتبُ يعرفُ ذلك بقوّة، ويعرفُ أن لحدهُ مَهدهُ، ويكتب:
قلْ للمدادِ: أنا لهُ خَدَمٌ/ إنْ عافَهُ أو خانَهُ/ خَدَمُهْ/.. ويدايَ سارِيَتاهُ منْ مطرٍ/ حتّى إذا اسْتَعصى/ أنا قلمُهْ/.. وأنا، اضْطِرامُ النّارِ في دَمِهِ/ وفمي، إذا ما تسألونَ/ فَمُهْ/.. وأنا البياضُ/ أنا السَّوادُ/ أنا دَمْعُ المدادِ/ ونبضُهُ ودَمُهْ..
تقول أيضاً: «الكتابةُ اقتباسٌ مذهلٌ عن الذات».. ما الذي علّمتك إياه الكتابة، وماذا اقتبستْ عنك؟..
تعلّمنا الكتابة، كيف ندرأُ عن الإنسانيّة والإنسان، كلَّ أشكال القبح بأساليبِ الجمال، والحبّ أرقى سماواتِ الجمال، وأنقى منابع المعرفة، وأصدقُ تجاربِ الكتابة، لأنه يصدرُ عن موهبةِ التّفاني..
أنْ تكتب، يعني أن تبني ذاتَك بشكلٍ أفضل، فكلّ ما تفعله الكتابة عن الذّات وحروب الذّات، هو محاولةٌ مستمرّة لإسقاطِ حرف الرّاء من كلمة حرب في العالم، والوقوع ما أمكنَ في الحبِّ..
لدمشق في قصائدكَ، النصيب الأجمل من هذا الحبّ.. هل لأنها، وكما تقول عنها: بلادُ الحبّ، وبلادُ القلب؟.
كلُّ الّذينَ أحبّوا دمشقَ ولم يفهموا إشارتها، أحبّوها كمهنة، صلبوها على أعوادِهِم باسمِ الحبِّ. أمّا أنا، لهذا وذاكَ، فلقد أحببتُ دمشقَ، كجنديّ عاشق..
إنها بلادُ الضّوءِ، وبلادُ الحبِّ، وبلادُ القلبِ.. أرجاؤُها القياماتُ المفتوحةُ على لا نهائيِّ الأرجاء، ومقامُها بين الإشارةِ والإشارةِ مقامُ الرّوح..
كلُّ شيءٍ يخفقُ باسمِ دمشق: القصائدُ والهواءُ والأيام وكريّاتُ الدّم. الغَدُ والأمس والآن ومسامُ الأزمنة. كلّ شيء يخفق باسم دمشق: المكانُ والتّرابُ والزمان وتعويذاتُ العواصمِ وتمتمات المدن. كلُّ شيءٍ يخفقُ باسمِ دمشقَ: الأزمنةُ والقصائدُ والجبالُ والشموسُ ولهفةُ العشّاق والأفئدة.
سؤالي الأخير: في قصائدكَ تراتيل صلاة، ورسائلُ حبٍّ وحياة.. ما الذي يحتاجه قاموسك الشّعري، كي يكون رسولك، أو كلمةِ سرّكَ؟
أحتاجُ موتاً إضافيّاً/ لكيْ أجتاحَ قافيتي/ وجرعةً منهُ/ في القاموسِ والقرطاسِ واللُّغَةِ/.. أحتاجُ ما لمْ يكنْ منْ قَبْلُ/ يَعنيني ويُشغلُني/ لكيْ أُعيدَ/ الّذي قد شَبَّ في نيرانِ أسئلتي/.. وأجرحَ الغيمَ مشغولاً/ بما في الرّوحِ منْ قَلَقٍ/ وأعبرَ الجرحَ/ محمولاً على أعوادِ مشنقتي/.. كلُّ الجهاتِ سوى ما صَحَّ منْ ماءٍ/ ومنْ دِمَنٍ تَكَوَّرَتْ ذاتَ عَصفٍ/ كي تصيرَ الآنَ لي جهتي/..
كأنّما، أنا، حمّالُ أثقالٍ وهاويةٍ/ وصخرةُ التّيهِ بعضٌ منْ أعاجيبي.. وأمتعتي