الثورة- عمار النعمة:
واحد من أهم المبدعين السوريين الذي أطلقوا عليه لقب «قلعة حلب الثقافية» وهو الباحث الموسوعي الذي أمضى حياته مولعاً بالكلمة والثقافة والدفاع عنهما، كونهما الحصن الأهم لثقافتنا وحضارتنا وتراثنا الغني.
إنه الراحل محمد قجة ابن مدينة حلب الشهباء الذي نستذكره اليوم بمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاته. الباحث الغيورعلى التراث السوري عموماً، ومدينة حلب بشكل خاص، حيث كتب عن صدق انتمائه وعشقه لمدينته «حلب» وعن التراث الذهبي الذي تحدث عنه وأرخ له في الكتاب «الذهبي لتوثيق فعالية حلب عاصمة للثقافة»، وفي «فلسفة العمارة الإسلامية.. حلب أنموذجاً» و«الحياة الفكرية في العصر الأيوبي»، و«قلعة حلب صوت من التاريخ»، و«محطات أندلسية». و«حلب في كتاباتي وقصائدي».
كانت معرفته بالتاريخ والأدب والتراث واللغة والنقد نتيجة تراكمات رافقته منذ طفولته، وتحديداً عام 1943، حين بدأ بحفظ القرآن الكريم، وتعلم الحساب وجدول الضرب في «الكُتَّاب» على يد شيخ جليل، ليعود إلى بيته في حي «قارلِق» ويكتشف الكتب والمخطوطات التي حوتها مكتبة والده الصغيرة، ومنها ديوان المتنبي المكتوب بخط اليد، فيذكر الذين يعرفون قجة عن قرب أنه كان يبتعد عن الأطفال ليذهب ويشتري الكتب ويبني مكتبته التي وصل حجمها لاحقاً إلى أكثر من 13 ألف كتاب في التاريخ والفلسفة والعلوم الإنسانية المختلفة.
دخل المدرسة في حلب، وبرز فيها طالباً متفوقاً وقارئاً نهماً، وما إن وصل إلى المرحلة الإعدادية حتى كان قرأ «الأغاني»، و»يتيمة الدهر»، وكتب الجاحظ والتوحيدي وروايات نجيب محفوظ ويوسف إدريس، ورحل في عوالم ابن هانئ الأندلسي وعمر أبو ريشة وشعراء المهجر.
حب قجة للأدب جعله يدرس اللغة العربية في جامعة حلب منذ عام 1959، ويُذكر بأن ثمة حادثة طريفة جمعته بأستاذه سعيد الأفغاني في الامتحان الشفهي النهائي لمادة «القرآن والحديث»، إذ طلب منه الأفغاني أن يفتح المصحف ويقرأ، وبعد أن أنهى قراءة الصفحة لم يطلب أستاذه منه التوقف، حينها أغلق قجة المصحف، وبنبرة تحدٍّ قال: «إذا كنت تنتظرني لأخطئ فستنتظر طويلاً»، وتابع القراءة من محفوظه، فهلل الأفغاني ومنحه درجة 87، التي لم ينلها أحد قبله، وهكذا يتخرج الأول على دفعته.
بعد ذلك بدأ حياته المهنية مدرساً للغة العربية في مدرستي «الباب» و»المعري»، ثم أصبح مديراً لثانوية «المأمون»، أشهر مدارس المدينة. ونظراً إلى مكانة تلك المدرسة، أصدر عنها كتاباً توثيقياً بمناسبة مرور 75 عاماً على تأسيسها، مُشبِّهاً إياها بجامعة السوربون الفرنسية بسبب رفعة التعليم فيها وتخريج المتفوقين والمتألقين منها.
في عام 1970، سافر إلى الجزائر مدفوعاً بحماسته القومية لتأدية دوره في حملة التعريب هناك، وبقي فيها 4 أعوام، نال في الجزائر درجة الماجستير في تاريخ الأندلس، التي لطالما عبّر عن إعجابه بأيام عظمتها حينما كانت عاصمةً للفكر والثقافة في العالم، واعترف أكثر من مرة بأنه لو كان سيختار عصراً ما ليعيش فيه، فسيختار عصر قرطبة الأندلسية.
عاد الراحل إلى حلب، وانكب على الدراسة والبحث والتأليف، وأصدر عشرات الكتب والمخطوطات والمقالات، وفي الوقت نفسه، شعر بأن من واجبه الدفاع عن مدينته التي أحبها وعشقها، والتي سكنتها عائلته منذ أكثر من 600 عام، وبالفعل حقق ذلك من خلال إدارته جمعية «العاديات» المعنية بالتراث والمحافظة عليه، ولكونه الأمين العام لاحتفالية «حلب عاصمة الثقافة الإسلامية»، أعاد إلى المدينة كثيراً من ألقها ودورها الحضاريين، إقليمياً ودولياً، كما يُحسب له مشروعه إقامة متحف في بيت الشاعر المتنبي، بعد اكتشافه أنه يقع في مكان «المدرسة الصلاحية».
لاشك أن الحديث عن محمد قجة يحتاج إلى الكثير الكثير من المقالات التي لاتنتهي عن مسيرة هذا الرجل المملوءة بالعلم والعطاء والجمال والإنسانية، لكننا مؤمنون بأن هؤلاء المبدعين يرافقون دربنا الطويل، ننتمي إليهم ولفكرهم بشكل أو بآخر، فهؤلاء مدرسة حقيقية ننهل منها العلم والعطاء لنكمل المسيرة والرسالة التي تحمل أهدافاً سامية لا يمكن أن نحيد عنها، فهنا أرضنا التي أنجبت المبدعين، وهنا وطننا وكرامتنا وتراثنا وتاريخنا الذي نعتز ونفخر بهم.
