الملحق الثقافي- رفاه الدروبي:
حالة فاعلة فعالة
الشاعرة سهير نذير زغبور رأت أنَّه عند التطرُّق إلى فكرة تأنيث المشهد الثقافي لا بدَّ من أن نقف أمام متناقضين؛ كلاهما صحيح لكن ليس بالضرورة أن يتطابق مع صحته، بمعنى آخر تعتبر الأنثى مبتدأ العطاء فالأرض، والسماء، والشمس، والحياة أنثى. كلُّ التأنيث يتوازى تماماً مع أنوثة المرأة وعطائها منذ أقدم العصور. إنَّها الأمُّ والمقاتلة والشاعرة والملهمة وكلُّّ رموز الخصب؛ لكنَّ تعميمه أمر خاطئ؛ فليست كلُّ امرأة أنثى خصبة العطاء، فبعضهن أرض قاحلة لم يكن لأصابعها بصمة في الحياة، لافتةً إلى أنَّه لا يجوز أن نخصَّ المرأة وحدها بالعطاء والخصب؛ ونبخس الرجل حقّه، فإنَّ كان الأمر كذلك لماذا تحتاج إلى شريك يقاسمها حياتها وإبداعها ويسندها وتسنده؟ للرجل أيضاً ما لها من ميزة الخصب، ومن هنا ندخل في مفترق آخر للحديث، ويكون عن تلك الحالة الإبداعية للمرأة كونها بدأت منذ القديم كحالة طبيعية، وثمة الكثير من الشواهد على براعة المرأة في ذلك.
الأديبة زغبور استدركت خلال حديثها أنَّه مع تقدُّم الزمن وتعاقب العصور تحوَّلت الحالة الطبيعية ذاتها إلى ظاهرة تشبه الموضة إذ صارت الأضواء تُسلَّط عليها كحالة فاعلة فعَّالة، وإهمال الرجل كندٍّ لها خاصة في زمن الشابكة ووسائل التواصل الاجتماعي والترويج لها من خلال محرِّضات الخصب والتفاعل كالصور المرفقة مثلاً، وأصبح العالم الافتراضي يعجُّ بالكتابات الأنثوية ويُسوِّق لها على أنَّها إبداع جدير بالاحتفاء حتى استولت الحملات المُروِّجة على قناعة الكثيرين، إذ نرى نسبة المتابعين للنساء أكبر بكثير من متابعي الرجال سواء في المراكز الثقافية أم الندوات الشعرية أم أي حضور طغى عليه الطابع الأنثوي، لذا كان لابدَّ من إعادة تأهيل القناعات عينها بأنَّ المرأة نصف المجتمع لكنَّها ليست كلَّه كونها أرضاً مهيّأة للخصب لكن بعض المساحات صحارى التعميم حكم خاطئ، والإجحاف بحق الرجل خاطئ أيضاً؛ فالإبداع والخصب إبداع الإنسان لا الذكر ولا الأنثى كتصنيف.
الحبر يتقيأ
كما لفت النحات أسعد عبود إلى أنَّ المنتج الإبداعي الحقيقي ظاهرة صحيَّة، وكان شيخ الصوفية الأكبر محي الدين بن عربي المتوفى 638 هجرية، من أكثر الصوفية اعترافاً بقدر المرأة وبمكانة بعض المتصوفات اللاتي قابلهنّ في رحلته الطويلة، وبيَّن فضل الأنوثة في رسالته الشهيرة، وتساءل: ماذا يقول ابن عربي لو استحضرناه في زمن وسائل التواصل الاجتماعي عن الإبداع الثقافي، وفي زمن سرقة المنتج الفكري بطريقة القص واللصق ووضع أسمائهم عليه، وعن الشللية في المجال الثقافي، والتشوّه اللغوي.. كثر منتج المطابع حتى كدنا نرى الحبر يتقيَّأ من تأنيث المشهد الثقافي والإبداعي، وأصبح حالة طبيعية يفرضها المنتج المطروح، ومدى تقبُّله من جماهير القرَّاء، وتجاوز مكان مؤلّفه يتجلَّى بمدى تأثيره.
تشاركية الخصب والعطاء
بدوره أفاد الكاتب والباحث دحام عبدالله القطيط بأنَّ الخصب والعطاء لا يقتصران على الأنوثة فكلاهما حالة تشاركيَّة بين الأنثى والذكر، وكذلك الحالة الإبداعية في المشهد الثقافي فلا يُمكن اختصاره بالأنوثة أو الذكورية علة الخالق بالخلق بالتضاد باعتباره حالة تكامل في تضاد حتى في كل تفاصيل الطبيعة.. حتى الظواهر لا تأتي من فراق إن كانت في الناحية الأدبية في عوامل الطبيعة، فلكلِّ زمان أدب ولكلِّ مكان أدب، وهناك أدب المدة وله أنواع وألوان في الأدب من الرمزية إلى الواقعية وغيرها، وهناك بحور في الشعر وألوانها والحديث يطول.
أمَّا عن تأنيث المشهد الثقافي، فالأنثى لديها إبداعها في كلِّ نواحي الحياة، والأدب له رمزية معينة وجميلة. تضفي الأنثى جمال روحها، وهناك انتشار في المرحلة الراهنة بزمن الإلكترونيات، والحروب الثقافية الخاصة، وأصبحت الوسيلة الإعلامية متاحة وفي متناول كل شخص بانتشار كثيف للمواقع والمجلات والجرائد الإلكترونية والأكاديميات والجامعات والكليات، فمنها المدسوس والمأجور ومن يتبع الشهوات والغرائز اللحظية الآنيَّة، كما انتشرت ظاهرة التكريمات ومنح شهادات الدكتوراة الفخرية لمن يشارك ولو بحرف، ما أدَّى إلى انحراف المشهد الثقافي بغياب ممنهج للثقافة الرسمية للبلدان العربية، وكانت الحلقة الأضعف المرأة ضحية تلك المواقع والمنتديات والمغريات تمارس من خلالها في المشهد الثقافي، ولايعرف تأنيث أو تذكير ومنه ولد التأنيث والعكس صحيح. إنَّها عملية تكاملية في تضاد إبداع الخالق فيها ضمن منظومة حسية لا نملك إلا ما علمنا منها ضمن مجموعة من تقسيم أنواع العلوم، فمنها مكتسب من خلال الحواس، ويُسمَّى العلم الحصولي والحضوري يعني معرفة النفس بالنفس دون اشتراك الحواس، ويعتبر اختصاص الخالق، ونظرية صدام الحضارات، أو حوار الحضارات، أو حركة الفكر بين التلقائية والتوجيه القسري.. المجتمعات اعتمدت مجموعة أدوات منها: «السينما، الدراما، برامج الأطفال وغيرها» جميعها تتوجَّه إلى اللاشعور في عقل الإنسان عبر مجموعة الأدوات ليتشبَّع منه العقل، ومن ثم ينتقل من التجريد إلى التجسيد ليصبح ثقافةً وسلوكاً ممارساً على أرض الواقع لضرب تلقائية المجتمعات كونها تصنع قوانينها من تلقاء نفسها.
نهر معرفي سلس
ثم أردفت الشاعرة أسهمان حلواني بأنَّ كلَّ ما لا يؤنث لا يعوّل عليه، وانطلاقاً من المشهد الثقافي عامة؛ نجد أنَّه طرأ عليه تطور في الآونة الأخيرة وخاصة فيما بعد فترة الأزمة لكن لا يعني أنَّه بخير تماماً. إنَّ مشاركة المرأة فيه كان حالة طبيعية لأنَّها نهر معرفي سلس لاينضب بمشاعرها، وقدرتها التعبيرية، ووسيلة إيحائها، وتوصيلها للمعنى، واعتبرتها رمز الخصوبة، والعطاء، والعاطفة الجياشة، والاحتواء، ولكنَّ فكرة تأنيث المشهد مرفوضة، فالثقافة من حيث المبدأ حالة جمعية إنسانية لا يختلف فيها الجنس، ولا يعول على تأنيث خبراتها التراكمية، أو تذكيرها، ولعلَّ فترة التراجع والتشدُّد التاريخية المرحلية المارّة بها المنطقة أكسبت المجتمعات أفكاراً مثَّلت سجناً للمرأة، قبل انطلاقها وامتلاكها زمام أمرها، وما أبرز العديد من الآداب تحت مُسمَّى قضية المرأة والأدب النسوي وغيره، ماجعل الأمر يبدو كردَّة فعل للتضييق وخنق تاء التأنيث تحت نقاطها.
بينما نوَّهت الأديبة الحلواني بأنَّ مانشهده اليوم أمراً مختلفاً وأظنه ظاهرة طبيعية في مجتمعنا السوري كما كان عبر التاريخ حيث يعطي للمرأة الأنثى حقها المشروع جنباً إلى جانب الرجل في المجالات كافة، متساءلةً: كيف الحال في الثقافة؟ وخاصةً أنها تعتبر ترجماناً صادقاً لمرحلة يمرُّ بها مجتمعنا وتعبيراً حقيقياً عن أفكاره وانتمائه. أخيراً لا بدَّ من القول: إنَّ فكرة التأنيث والتذكير فكرة واهية، ولا بدَّ أن يُبنى على أنقاضها مبنى الإنسان بكلِّ طاقاته وعزمه وفنه ومعلوماته التراكمية وخبراته المكتسبة، ولا يتمُّ ذلك إلا من خلال عملية التمازج، والتماهي واحترام الأدوار، ومعرفة طاقات النفس المبدعة والمعطاء.
كلٌّ في فلكٍ يسبحون
أمَّا رئيس اتحاد الفنانين التشكيليين في الرقة محمد الرفيع فأكَّد أنَّه منذ بدء الخليقة كانت الحياة على اختلاف مشاربها مسرحاً كبيراً يضجُّ بالأحداث، والفصول، وتطور الإبداع ليطول المجالات المختلفة، ولم يقتصر على المرأة أو الرجل، وليس من الحكمة خلق تسميات تخصُّ إبداع الرجل أو المرأة فكلٌّ في فلكٍ يسبحون، فالمشهد الإبداعي الأنثوي حالة طبيعية بكلِّ صنوفه وأشكاله، والمرأة تمتلك الإحساس العميق والقدرة الفائقة على العطاء، كما أثبتت وجودها في المجالات كلِّها عموماً، مُتسائلاً: مَنْ وصف تسمية الإبداع أو الأدب أو الفن بالأنثوي ليتمَّ التفريق بين الجنسين فقال: إنَّ الإبداع لا يقتصر على جنس أو فئة معينة طالما يمتلك الموهبة والخيال والتعبير الحقيقي عن كلِّ ما يخالج الشعور والإحساس والمواقف والوجدان، ما يُضفي على ذلك الإبداع مزيداً من البريق والدهشة.
من جهته التشكيلي الرفيع أشار إلى أنَّ لكلِّ مجالٍ مبدعيه، ولا بدَّ من التفريق بين الغث والثمين، متجاوزين منطق الذكورة والأنوثة، كما ينبغي تقدير واحترام العطاء الناتج عن المرأة في كلِّ المجالات، فالكلمة والوردة والقصيدة، وقارورة العطر والفضيلة والأمومة والحبيبة أنثى ليس بمقدورنا إلغاء الفن أو الأدب الأنثوي أو شجاعة الأنثى على مرِّ التاريخ قديماً وحديثاً، ولو اختصرنا بأمثلة قليلة فلا يمكن تجاهل الخنساء، زنوبيا، مي زيادة، فدوى طوقان، غادة السمان، صلوات فيروز، تنهدات أم كلثوم، تصاميم المهندسة زها حديد، وعبقرية الكثير من الإناث اللواتي دخلن التاريخ الأدبي والإنساني والإبداعي، وجلجلن نواقيس العطاء، وتركنَّ بصمات مضيئة في القلوب والعقول عبر محطات حياتهن، وأغنين التراث الإنساني والإبداعي بالجمال. الأمر ليس سباقاً أو نزالاً لإثبات الأقوى والأجدر، فلكلِّ جنس ما يخوِّله أن يكون اسماً مضيئاً في ذاكرة الأجيال، ووجدان الجمهور، وعمقه وأحاسيسه، مُنوِّهاً بأن الوقت حان لنرفع القبعة وننحني بعيوننا للقلم لأنَّه ينزُّ الرحيق، والإبداع الحقيقي، والريشة التشكيلية البارعة، والصوت المخملي ومايشابهها من صنوف العبقرية المتعددة، وما دونه سيكون إلى زوال لكلا الجنسين لأنَّ ما ينبع من القلب يستقرُّ فيه.
صنوا التجدد والانبعاث
النحَّات خالد جازية رأى أنَّ المشهد الأنثوي يُشكِّل جميع الفنون سواء أكانت البصرية أم السمعية أم المرئية والمكتوبة.. كلّها تصبُّ في بوتقة العمل الفكري الإبداعي والثقافي فتنصهر تلك الفنون لتعلن فيما بعد عن ولادة عمل إبداعي خلاق، عندما يؤنث يصبح مكانة لها قيمتها الزمانية والمكانية وحضورها ودلالاتها الرمزية، فالمنطلق إذاً كونه قاسماً مشتركاً ما بين جميع المبدعين بحيث تلعب المخيّلة لدى المبدع قيمتها كخاصية أنثوية باعتبارها وعاءً وحاضناً خصباً لتلاقح الصور والأفكار وتوالدها، وما يتمخَّض عنها من نتاج فكري إبداعي ممزوج بالأحاسيس المرهفة كحاضنة أنثوية أخرى،فالخصب صفة من أهمّ الصفات البيولوجية للتأنيث وأكملها، ويمكن أن تطلق عليها عندما يمتلك المبدع مخيلة خصبة يؤنثها، فيصبح أقدر على صياغة وترجمة مايدور في خلده من أفكار وصور يصبّها في أعمال إبداعية، فالمبدع يكون كاتباً بارعاً وعاشقاً متيماً، فالكاتب ينحت بين السطور،والنحات يكتب بأزاميل ممزوجة بأحاسيس مرهفة على سطح الصخور، وكلاهما فعل عشق والعشق فعل تأنيث كما يقول الناقد الفرنسي رولان بارت باعتباره صنواً للغوص في أعماق الآخر بالمعنى الاجتماعي.
إنَّ النحات المبدع يمتلك المخيّلة الخصبة كي يصيغ أعماله الإبداعية بأزاميل ممزوجة بمشاعر ملتهبة كعاشق متيم يكتب أجمل قصائد العشق والغزل بأرق الصور وأجمل الوصف والتعابير ويتعامل مع خاماته كعاشق أحبَّ معشوقته إلى حد الهيام، وفي الحالة ذاتها يؤنث المبدع فتغلب خاصية الأنوثة الحيوانية على خاصية الذكورة لديه، فتتفتح أمامه آفاق رحبة واسعة للتخيُّل والتصوّر والصياغة والترجمة الفكرية، ونقل القيم الجمالية من محسوسة إلى قيم جمالية بصرية محسوسة لدى المتلقي، فيصبح العالم أكثر اتساعاً وأكثر شمولية فالنظرة الأنثوية نفسها نظرة شمولية تتجه عادة نحو الكل؛ وليس باتجاه الجزء كنظرة قاصرة للأشياء وماهيتها وجوهرها الحقيقي فالمتعة لدى المرأة عادة تكون متعة شمولية وليست جزئية، بالتالي تكون الحالة الإبداعية شمولية عندما يؤنث المبدع فيصبح أكثر قدرة على الخلق والتعبير وبدوره صنواً للتجدُّد ولانبعاث الأنوثة الجوانية.
العدد 1195 –2 -7-2024