بين فن العمارة .. وذكريات الأمكنة لطفي لطفي: الفن منتج إنساني ودمشق القديمة شكلت وعيي الأول في التوثيق والرواية
الملحق الثقافي- غصون سليمان:
شكلت دمشق القديمة لوحته الجمالية الأولى ومن خلال خيوط ألوانها اتسعت بحجم الوطن ليسكن قلبه الكبير في حله وترحاله، حفظ عن ظهر قلب تفاصيل الأمكنة القديمة والحديثة، فوثقها بعيون المحب والهاوي والمحترف بالحبر والريشة والرواية فهو المتخصص بهندسة العمارة وتفوق بجوانب كثيرة منها، لتغدو وكأنها البوصلة الموجهة لكل اهتمام.
الدكتور لطفي فؤاد لطفي الموهوب بعشق الحياة والوطن جمعتنا وإياه عدة لقاءات في جريدة «الثورة» وكان لابد من الحديث عن الفن والحياة والذكريات وما بين بيروت ودمشق مسافة مسير بحكم الضرورة والعمل ولكن ما إن يطل من الغرب كاشفاً وجه الشام كما يحب أن يسميها، وهي تلفحه بهوائها وعطرها حتى ينعش أوكسجين العاصمة محياه وروحه.
الكتابة حياة ماذا تعني لكم..
يقول الدكتور لطفي إن الوطن هو الأساس والدافع له في كل المراحل التي مر بها وسر التعمق والغوص بمهنة العمارة لأنها منتج إنساني بالأساس من صنع الإنسان، وتطورها هو نتيجة حياة اجتماعية مر بها في مختلف العصور والأزمنة وحتى العصر الحديث حين دخل الإسمنت مطلع القرن العشرين، وكيف تغيرت وبدأت تتأثر بالعمارة الأوروبية.
تحدث الدكتور لطفي عن بلاد الشام كوحدة جغرافية لها تاريخ وحياة واقتصاد واحد تقريباً،هذه التغيرات طرأت على كل المدن وخاصة مدينتي دمشق وحلب المدن الأكبر في منطقتنا والأكثر عمراً في التاريخ ومن أقدم المدن المأهولة، إذ سبقت العصر الحضاري الأول، ودليل ذلك تلك التلال الموجودة حول دمشق، مثل قطنا، وتل الرماد، وسكا، فهي كانت المواقع الأولى لسكن الإنسان في منطقتنا.
وأوضح الدكتور لطفي كيف انتقل للمناطق الأخرى الذي بدأ الإنسان يستقر بها، فهناك رأي يقول إن الإنسان الأول أتى من إفريقيا وعبر البحر الأحمر قبل مليون ونصف المليون عام وأخذ خطين متوازيين، خط مباشر من عدن مروراً بالشمال واستقر في منطقتنا، وخط اتجه نحو اليمين قاصداً الجزيرة العربية، واستقر في مناطق بلاد الرافدين، وقسم ذهب إلى الشرق.فيما ذهب قبل ٤٠٠ ألف سنة قسم من أبناء منطقتنا إلى أوروبا.
حركة الإنسان هذه قدمها الدكتور لطفي بكتبه المختلفة بشكل مفصل بدءاً من استقراره بالكهوف والمغاور مروراً بالقرى والمدن وكيف اخترع النار وأوجد الكتابة والزراعة واصفاً ذلك بالثورات التي قام بها إنساننا، وكون هذه الحضارة الكبيرة في منطقتنا، وكيف استفاد من امتزاج الحضارات المختلفة التي مرت على المنطقة ليعيشها اليوم إنساننا المعاصر.
*ينشغل الدكتور لطفي على قراءة تاريخنا من خلال العمارة كيف يرى جماليات هذا التاريخ، وماذا أنجز في هذا المجال ..؟يجيب عن ذلك بقوله: قبل الدخول بالحياة الاجتماعية فإن السكن يفرض شروطه حيث العمارة القديمة لها خصوصية أكثر لناحية الاستفادة من حركة الشمس والهواء حسب وضع المنطقة شمالاً وجنوباً، صيفاً وشتاء، حيث تم توظيفها بعمارته. لافتاً إلى أن إحساس الإنسان بالجمال يعود لزمن بعيد وموجود بداخله بالفطرة، مذ كان عنده سكن بسيط وأخذ يلون الجدران، ويرسم بعض الحيوانات، وأخذ يطور فن العمارة بشكل يتماشى مع الزخرفة والتلوين والنحت وغيرها.
ناهيك عن جماليات مختلفة للطبيعة.
يلحظها بالنظر والرؤية.
وحول مقولة أحدهم نحن نهندس شوارعنا لتعود شوارعنا وتهندس حياتنا من جديد فأين تكمن العلاقة التفاعلية بين الإنسان ونظرته للجمال.
أشار الدكتور لطفي في هذا الجانب إلى أن جمال الشوارع والحارات يعود للمدينة القديمة كما ذكر آنفاً، وأن شوارعنا كانت مستقيمة ومتقاطعة بالفترة الرومانية والبيزنطية ومع الفتح الإسلامي أخذت المدينة تتعايش بشكل مختلف، حيث أصبحت الحارات أضيق، لناحية تلاصقها مع بعضها بعضاً، وبالتالي الشوارع خدمت الإنسان بشكل تلقائي، مبيناً أن الشارع المستقيم هو أقدم شارع طويل يجمع بين الغرب والشرق من منطقة «الدرويشية إلى باب شرقي»، فالمعروف تاريخياً أن المدينة تتمركز حول المعبد الذي تحول فيما بعد إلى الكنيسة، ومن ثم المسجد فدائماً المدن تتجمع حول المعبد الرئيسي جاذبة الأسواق والسكن إلى محيطها في البدايات.
أما التوسع الآخر للمدينة القديمة فبدأ في القرن الثالث عشر وأخذ بالانتشار شمالاً نحو سوق ساروجة وغرباً نحو القنوات وجنوبها نحو الميدان، وأخذ عدة اتجاهات ملتفا حول القلعة باتجاه شارع الملك فيصل للمناطق الشرقية.
-هؤلاء الناس أعيش من أجلهم
وإذا ما نتقلنا في حديثنا مع عاشق الشام اللامحدود والمسكونة في وجدانه، يختصر لطفي الحروف بعبارة «الشام هي حياتي». أجدها عند الناس البسطاء، وأجدها عندما أدخل الأسواق القديمة «أسواق الخضار والفاكهة وغيرها .. هؤلاء الناس هم الذين كونوا المدينة بالأساس وهؤلاء الناس أعيش من أجلهم، ومن أجل تطلعاتهم لحياة أفضل.
تمرد على الـــواقع
بدأت الشام بالنسبة له منذ وعيه الأول، إذ يذكر حين كان في الصف الرابع بمدرسة الملك فيصل- شارع الباكستان- كيف دفعه الفضول والمغامرة لأن يكون في الصف السادس، فلديه القدرة الذاتية والمعرفية لتجاوز صفين، صارح والده بهذا الأمر وهو الذي زرع في نفسه حب القراءة، ونمى فيه حب الإطلاع على الأساطير اليونانية، والأدب الروسي والعالمي، مؤكداً أنه من فترة اليفاعة ولغاية اللحظة هو قارئ «نهم» للكتب لايتعب منها أبداً.
حاول والده البحث عن مدرسة صغيرة أو لنقل عن معهد خاص مناسب قبل الامتحان بشهر لترميم بعض المعلومات بالحساب..ومع البحث والمتابعة شاءت الأقدار حين كان والده يشتري الخبز من فرن الصالحية أن يتعرف على شخص متقاعد كان يدرس بالسوربون، ويعمل لديهم بتسجيل الحسابات فيما سكنه بمنطقة القيمرية.
ولأجل الإصرار على بلوغ هدفه أشار الدكتور لطفي كيف حاول في ذاك الوقت أن يقطع المسافة من مركز، السبع البحرات إلى سوق الحميدية والجامع الأموي إلى مقصده حي القيمرية ليأخذ الدروس المناسبة في الحساب ..هذا الجهد والقفز من الصف الرابع إلى السادس كان بداية وعيه لجمال المدينة وعشقه لها.
ويتابع الدكتور لطفي حديث الذكريات حين كان في مدرسة التجهيز الأولى، مدرسة جودت الهاشمي حالياً، مع مجموعة من الشباب لديهم تطلعات فنية ما دفعهم لتأسيس المسرح المدرسي، ومن هؤلاء المشهورين الذين عرفناهم خلدون المالح، محمد الشيرازي المشرف على الفريق، وغازي الخالدي الرسام المعروف الذي أبدع بشخصيته في مسرحية البخيل لموليير، وكذلك بشخصية البخيل بتاجر البندقية، ولعل الأهم في هذا الأمر أن مجموعة المسرح المدرسي هذه انتقلت إلى العمل التلفزيوني حيث تم إرسال خلدون المالح ومروان شاهين إلى إيطاليا، والدكتور لطفي إلى أميركا حيث درس في أهم جامعات كاليفورنيا- لوس انجلوس الذي تخرج منها المخرج السوري المشهور مصطفى العقاد.
كان التأثير الأول للحياة في أميركا من خلال اهتمامه ببرامج المنوعات شرقية وغربية والتي شدت انتباه الشباب بأعمارهم المختلفة ذكوراً وإناثاً، ماجعله نجماً في ذاك الوقت.
وتوالى نشاطه كما يروي لصحيفة «الثورة» الملحق الثقافي بإدارة الندوات، والعمل بالدراما، فتوج أول عمل مترجم له عام ١٩٧٣ بعنوان «ابتسامة الجوكندا» ثم بدأت الأعمال التلفزيونية لكتاب شخصيات منها ناظم حكمت، يشار كمال صاحب رواية محمد الناحل والتي حولتها الدكتورة ناديا خوست إلى»الصقر» وهو أول خروج للكاميرا إلى الطبيعة في مناطق مشتى الحلو والكفرون عام ١٩٨٠،إضافة إلى عمل حمل عنوان درب الآلام للدكتورة ناديا خوست وحاز جائزة أفضل ممثلة، حيث يعالج حياة المرأة، كيف عاشت وتم اختيارها كزوجة، وكيفية تعاملها مع زوجها وجملة المتناقضات التي مرت عليها. كما عمل فيلماً اعتبره أهم الأفلام التي صورت أحداث لبنان ومجزرة صبرا وشاتيلا، وتلك الصرخة المشهورة، والتي سبقها الحديث عن الطائرات التي دمرت فيتنام مع المقارنة بين الحدثين من خلال الظلم والعدوان الذي وقع على أميركا اللاتينية وبلداننا العربية سورية ولبنان وفلسطين. حتى تم أخذ نماذج للنساء اللواتي ينخرطن بالجيش الإسرائيلي ليبقى السؤال ..كيف يعملن هؤلاء النسوة بإحساسهن الأنثوي لقتل البشر، والذي يجب أن يكون مفطوراً بالأمومة والعواطف والمشاعر. !!؟
وذكر الدكتور لطفي من جملة أعماله المصورة أيضاً معركة تل الفرس المشهورة التي واجهت فيها دبابة سورية كتيبة دبابات إسرائيلية والتي تحدث عنها الإعلام الإسرائيلي مطولاً من خلال كتاب المحدال الذي نشره الإسرائيليون وأشاروا فيه، كيف لقائد دبابة وحيد يقاوم كتيبة دبابات حتى استشهد ولم يستسلم.!!؟؟
هذه النماذج التي عالجها وأظهرها الدكتور لطفي برؤيته البصرية والفنية والفكرية وثقت الصراع من أجل العدالة الاجتماعية.
أيضاً كان هناك رصد لرواية عادل أبو شنب وردة الصباح ونهر السلطان لعبد السلام العجيلي الذي يحكي عن حالة صراع الإنسان مع النهر خاصة فترة الفيضانات، وبسمة الحزن لألفت الإدلبي والتي عالجت فيها الرواية قضية المرأة المتفوقة في مجتمعها ودراستها ولكنها مظلومة في أسرتها حين فضلوا أخيها الجاهل عليها.
اتسمت أعمال لطفي الروائية بأنها مدروسة وليست مرتجلة وكانت صادقة مع الانسان والواقع والحياة.
وهنا يذكر حادثة على سبيل المثال جرت في الثمانينات إذاً كان هناك من يريد تحويل منطقة سوق ساروجة إلى منطقة ناطحات سحاب وبالاتفاق مع مجموعة من الأدباء أمثال الدكتورة ناديا خوست وخالد معاذ والد الدكتور عبد الرزاق معاذ، تم إنجاز فيلم عن سوق ساروجة ومع تظهير هذا الفيلم تم إيقاف مشروع تحويل ساروجة إلى ناطحات سحاب وكان لهذا الفيلم صدى في المهرجانات الأوروبية.
كما أنجز لطفي فيلماً عن سجن عكا يجسد صراع المقاومة مع الاحتلال، ومع نجاح هكذا أفلام دفعه للاتجاه نحو التوثيق..بدأها بسلسلة وثائقية عن أحياء دمشق ورصدها حياً حياً من الناحية الاجتماعية والعمرانية، كالميدان والصالحية، والشاغور، والقيمرية وغيرها، ثم انتقل إلى توثيق الخانات والأحياء في حلب وحمص وحماة واللاذقية .وكذلك الاهتمام والتوثيق بسبل الماء الذي كان يشرب منها أهل الشام وترتوي من نهر بردى وتتوزع على البيوت حسب الطوالع. منوهاً لما حصل في العشرينات حين حدثت جائحة كورونا ما اضطر الناس ومجموعة من التجار للتفكير بجر نبع الفيجة لسكان العاصمة،
وهذا ماجعله يفكر بحسابات مختلفة بحيث يجب أن يكون بكل منطقة»سبل ماء» مثلما هو الحال في بوابة الصالحية ومنطقة عرنوس والجسر الأبيض.
ولأن طموح الدكتور لطفي لا يتوقف عند إنجاز أي عمل، ويحتاج إلى بعض المنهجية، فقد درس التاريخ بعمر الـ٦٤ عاماً وحصل على الدبلوم والماجستير والدكتوراه لتعزيز ما لديه من خلفية علمية ومنهجية إضافة إلى أعماله السابقة والتي حولها جميعاً إلى كتب مستخدماً دراسته بأسلوب ومنهجية عالية الدقة.
لدى الدكتور لطفي اثنا عشر كتاباً عبارة عن سلسلة من الوثائق حول الملابس ونوعيتها وفق كل منطقة وكذلك النقود والحلي.فهو مسكون بحب التوثيق لكل تفاصيل الحياة السورية قديمها وحديثها متمنياً على القائمين بإدارة التلفزيون أن يعاد بث العديد من الأفلام الوثائقية التي أنجزها، فهي صالحة لكل وقت وزمان لطالما التاريخ يعيد نفسه.
العدد 1195 –2 -7-2024