الملحق الثقافي- سهيلة علي إسماعيل:
تلومني صديقتي الفرنسية في العالم الافتراضي (Jouliette .F) وهي فنانة تشكيلية، لأنني بقيت في بلدي سورية، ولم أخرج منها كما فعل الكثيرون هرباً من جبروت الحرب وحصاد الأرواح البريئة. وتؤكد لي بين الحين والآخر أنها سترحب بي أجمل ترحيب في منزلها الفرنسي المتواضع، لأنه وكما قالت مستعيرة قولاً عربياً. نردده كثيراً فيما بيننا نحن- السوريين- :»بيت الضيق يتسع لألف صديق» وهو قول حميمي، يرمز إلى الكرم وعادات التآلف والمحبة. ولم تكتفِ صديقتي الرائعة بذلك، بل أظهرت تعاطفها الكبير مع المواطن السوري الذي طحنته رحى الحرب، فجعلته في حيرةٍ من أمره، يطرح سؤالاً مصيرياً على نفسه ليل نهار: أيغادر أم يبقى؟. وبدا ذلك التعاطف الواضح من خلال منشوراتها وتعليقاتها المعبرة عن مشاعر وأحاسيس صادقة على الفيسبوك.
تعاطفت السيدة جولييت معي ومع جميع السوريين رغم بعد المسافة بيننا. ورغم موقف حكومة بلادها مما حدث وما زال يحدث في سورية. وما زاد من تعاطفها أنني كنت- في أحيان كثيرة- أرد عليها باللغة الفرنسية بحكم معرفتي بلغة طالما تذوقت أدبها، شعرها، نثرها وقواعدها من خلال دراستي لها في جامعة دمشق. فتعاطفت مع كوزيت فيكتور هيغو، وفاءلني فولتير في «كانديد»، وضحكت على «طرطوف» مع موليير، وأطربتني القافية في شعر لامارتين، وأذهلني مسرح جان راسين، واستساغت أذني سماع جاك بريل وجو داسان، كما أقنعتني واقعية بلزاك في «الأب غوريو» وحزنت لمصير شخصيات ألبير كاو في روايتي «الغريب» و»الطاعون».
طبعاً، أقدِّر كثيراً مشاعر صديقتي الفرنسية، وما انتابها من خوف وقلق على الشعب السوري. لكنني لم أجرؤ أن أخبرها أنه كثيراً ما راودني حلم السفر، لكنْ ليس للاستقرار، وإنما حب بالاكتشاف، وربما إرضاء لتجريب الإحساس بدهشة جمال مكان آخر. ولا تعرف السيدة جولييت، أنني مثل الكثيرين ممن اختاروا البقاء رغم كل أنواع وأشكال الخطر المحدق بهم، لا أتخيل العيش في بلاد لا أعرف من تقاسيم وجوه قاطنيها من أية منطقةٍ ينحدرون، ولا أستوعب أن أعبر شارعاً في حيٍّ صغير دون أن ألقي التحية والسلام على الآخرين. وصديقتي الفرنسية لا تعرف أننا في سورية صنعنا المعجزات، فعند شعورنا بالخوف نلوذ إلى قراءة الآيات القرآنية أو نستحضر قولاً ليسوع المسيح لتطمئن قلوبنا المتعبة، وتهدأ نفوسنا المضطربة، كما نتضرع إلى الله وأوليائه الصالحين بكل الأساليب لنطرد مسببات الجزع والرعب. وإذا ما جعنا نستبدل الماء بالزيت، ونصنع أشهى المأكولات من أبسط الموجودات، ولنا في الزعتر الحلبي خير مثال. ونداري حزننا بالرقص على أوجاعنا، ونقطع أوقاتنا بحكايات الجدات.
ومن التفاصيل الصغيرة نستمد التفاؤل ونتمسك بالأمل، فصديقتي الفرنسية لا تعرف أنَّ ابن مدينة حمص فتح قلبه قبل باب بيته لابن الرقة ودير الزور والحسكة وإدلب، كما فتحه قبل ذلك للنازحين من لبنان خلال حرب تموز عام 2006 وفي ثمانينيات القرن الماضي، وقبلها مع الوافدين من العراق مع بدء الاجتياح الأميركي عام 2003.
لا تعرف – أيضاً- أن رجلاً من مدينة دوما الدمشقية رأى حلماً عن صديق له من حي الزهراء في حمص، فاتصل صباحاً ليطمئن عليه، وكانت المفاجأة أن الرجل قد فارق الحياة قبل يوم واحد، ولا تعرف أنَّ والد أحد الشهداء من مدينة اللاذقية رأى طفلاً نازحاً من حلب الشهباء، يمشي حافي القدمين، لم يكن يرتدي لباساً لائقاً، فأخذه إلى أقرب محل، واشترى له حذاءً جديداً وثياباً جديدة، وأن مواطناً من حي القصور في حمص ألبس ممرضة من حي النزهة، لجأت إليه عشية الهجوم على المستشفى الوطني القريب من منزله حيث كانت تعمل، عباءة زوجته وأوصلها إلى منزلها صباحاً. هي لا تعرف أنني مثل سوريين كثيرين قد يهاجم الوهن أجسادنا، ويصيبنا المرض، وينتابنا الخوف والحزن واليأس، إذا ما فكرنا بالابتعاد عن ملاعب طفولتنا، وذكريات صبانا، وجلسات جيراننا، وعن عهود غير مُعلنة قطعناها على أنفسنا، تقضي أن يكون الحب واللهفة والغيرة عناوين دائمة، تَسِم علاقاتنا، وتسكنها كسكنى اللون في العلمِ. حتى ولو ادّعى الكثيرون أنَّ الحربَ غيَّرت النفوس، وأفرزت ما لم يكن متوقعاً.
فأنا وككل السوريين، وبعد كل هذه السنوات القاسية، بتنا نبحث عن بصيص أمل حتى ولو كان الوصول إليه صعباً، كي نتعلق به كما يتعلق الغريق بقشة، وأننا في الليالي الكالحة، نعود بذاكرتنا إلى البيوت القديمة كي نشعل رقصتنا الأولى وإلى الأبد. وأنني أستعير كلمات الشاعر التونسي الراحل محمد الصغير أولاد أحمد في وصفي حبي لبلادي من قصيدته الطويلة «نحبُّ البلاد»
نحبُّ البلاد
كما لا يحبُّ
البلاد أحد
نحجُّ إليها
مع المفردين
عند الصباح
وبعد المساء
ويوم الأحد
ولو قتلونا
كما قتلونا
ولو شرّدونا
كما شرّدونا
ولو أبعدونا
لبرك العماد
لعدنا غزاةً
لهذا البلد
العدد 1199 – 30 -7-2024