الملحق الثقافي- د.ح:
من المعروف أن الثقافة روح الحضارات فالحضارة بأوسع معانيها هي بناء مادي وتقني وصناعي، الطائرة حضارة القطار حضارة المدن حضارة الصروح العمرانية حضارة ولكن روح ذلك كله الثقافة التي تعطي المعنى الإنساني الحقيقي لها والثقافة بمعناها الواسع ليست فقط الآداب والعلوم الإنسانية بل هي القيم الإنسانية الجمالية النبيلة التي تغذي الروح… ولم تبق حضارة ما إلا بمقدار ما كانت ثقافتها حاضرة وقادرة على الحفر في العقل والوجدان.. من هنا كان الصراع في العالم صراعًا حضارياً صراع بين القيم السلبية والإيجابية ولم يكن أحد علماء الاجتماع الروس مخطئاً حين قال:إن الحضارة الروسية ثقافية روحية وإنسانية لأنها وريثة الفلسفة بينما الحضارات الغربية وريثة روما التي تمجد العنف والدم والعبودية وغزو الشعوب.. صموئيل هنتغتون في كتابه (صدام الحضارات إعادة صنع النظام العالمي) تنبأ أن العالم سوف يعاد تشكيله ثقافياً (ص٢٠٣) وعقد فصلاً تحت عنوان إعادة التشكيل الثقافي للسياسة الكونية إذ يقول(السياسة الكونية يعاد تشكيلها الآن على امتداد الخطوط الثقافية مدفوعة بالتحديث الشعوب ذات الثقافات المتشابهة تتقارب والشعوب والدول ذات الثقافات المختلفة تتباعد الانحيازات التي تعتمد على الأيديولوجية والعلاقات مع القوى الكبرى تفسح الطريق لتلك التي تعتمد على الثقافة والحضارة.
الحدود السياسية يعاد رسمها لكي تتوافق مع الحدود الثقافية:
العراقية والدينية والحضارية المجتمعات الثقافية تحل محل تكتلات الحرب الباردة وخطوط التقسيم بين الحضارات تصبح هي خطوط الصراع الرئيسة في السياسة العالمية.. أثناء الحرب الباردة كان يمكن أن تكون هناك دولة غير منحازة كما كان عدد كبير بالفعل أو كان بإمكانها كما فعل كثيرون أن تغير انحيازها من جانب إلى آخر كان يمكن لقادة تلك الدول أن يختاروا على ضوء إدراكهم لمصالحهم الأمنية وحساباتهم لموازين القوى وخياراتهم الايديولوجية.
في العالم الجديد أصبحت الهوية الثقافية هي العامل الرئيسي في تحديد صداقات دولة ما وعداواتها وبينما كانت دولة ما تستطيعان تتجنب الانحياز أثناء الحرب الباردة إلا أنها لا يمكن أن تفقد هويتها.. سؤال:إلى أي جانب أنت؟؟؟؟ حل محله سؤال:من أنت؟؟؟؟ وعلى كل دولة أن تجد له إجابة هذه الإجابة هي هويتها الثقافية وهي التي تحدد مكان الدولة في السياسة العالمية كما تحدد أصدقاءها وأعداءها..) وإلى مثل هذا يشيرالباحث السعودي خالد بن هزاع الشريف في عكاظ السعودية إذ يرى أن ثمة «فسيفساء» تجمع نسيج المجتمعات؛ تعددية وعرقاً وأصولاً ولوناً، وتكريس أهميته في الوجدان البشري إحدى مهمات الدول، ولذا فإن «التعايش» فرض على الكل؛ شرعاً وقانوناً وثقافة، والوقوف ضد تهديد الهويات القاتلة الضيقة لا يترك للاجتهادات الفردية أو معالجة الزمن لها، خصوصاً أن «صراع الهويات» أحد مهددات الهوية الوطنية لأي دولة.
في التسعينات من القرن الماضي عقب انتهاء الحرب الباردة، برز ما يسمى بـ«صراع الهوية» ثم تلاشى مع النظام الرأسمالي، فظهر خطاب «التعبئة المجتمعية» الذي فتح ذلك الصراع بين الهويات، ولما أتى «التطور التكنولوجي» ساهم في زيادة التعدد الثقافي والتبادل الحضاري، وتلك الصراعات ظهرت في العالم كله، خصوصاً تلك الدول التي تعاني من الصراعات الداخلية على أساس الهويات المتعددة.. في المرحلة الحالية وما قبلها بقليل؛ ازدادت وتيرة الصراع الثقافي أو «صراع الهويات»، الذي توغل في جسد المجتمعات العربية، ومنها المجتمع السعودي،(والعربي عموماً ) وتسبب في انفجارات صراعية فكرية في أذهان الشباب من جيل المستقبل، ولأن «الهوية» ما زالت مفهوماً غامضاً في ثقافة الجيل، فإن المؤسسات الثقافية والإعلامية ومفكريها وعمداءها مطالبون ببلورة مفهوم معرفي يعكس انتماء وطنياً صوب اندماج مجتمعي يعلي «هوية الوطنية» عن أي هوية أخرى.. أما إذا تطرقت إلى تدمير العقول الذي ينتج عن تصادم بين ثقافتين متناقضتين في القيم والمشاعر والمعتقدات والأفكار السياسية والمذهبية، فإن «وسائل التواصل الاجتماعي» فجرت تلك الصراعات، إضافة إلى الحرب الباردة التي شنتها مواقع إلكترونية هدامة منتشرة على «الويب» تبث سمومها للجيل، بأكاذيب وافتراءات وشائعات وتضليل، ومن ذلك نحتاج لتكاتف مجتمعي ومؤسسي بتقليل «صراع الهوية». وفي ظل غياب «مسطرة التوافق المجتمعي»؛ أخرجت «القنوات اليوتيوبية» الغث، وأصبح العبث الإلكتروني يتزايد يومياً أمام أعين الجيل المهووس بها للأسف، إذ شكَّلت ثقافة صراع فكري وحروب هوية تتجاوز الحدود الإقليمية، إضافة إلى الحسابات الوهمية التي تظهر على شكل مكوِّن ثقافي داخلي يسعى لزرع الفتنة والتفريق العرقي والمذهبي) هذا الواقع الجديد الذي فرضته الثورة التكنولوجية يهدد الهويات المجتمعية بفعل الدعم الغربي لمثل هذا، وإذا كان مفهوم الهوية كما يشير غير منجز في التعريف النهائي، وثمة خلاف واختلاف في تعريفه، فإن هذا لايعني أنه لأنه لا توجد خطوط عريضة تشكل العمود الفقري لأي هوية مثل : اللغة والتاريخ والقيم والعادات والتقاليد، والمعتقد، وكذلك الطموحات والأهداف، وحين تعي هذه القواسم المشتركة في تشكيل الهوية، فأنت تعي ما أنت عليه، كما جاء في إحدى تعريفات الهوية ( هي وعيك ما أنت عليه ) أي من قيم ولغات وتاريخ، ومن ثم تعرف ما تريد، من هنا كانت الغرب يعمل على تخريب الانتماء والهوية وتمزيق المجتمعات واستلاب العقول كما أشار إلى ذلك السيد الرئيس بشار الأسد في كلمته أمام قمة جدة.
العدد 1201 – 13 -8-2024