الثورة _ هفاف ميهوب:
عندما زار الفيلسوف الفرنسي «فرانسيس جانسون» الجزائر، ورأى مقدار الاستبداد والعنف والقتل الذي تمارسه قوّات بلاده فيها، شعر بحجمِ المعاناة التي يعيشها هذا الشعب، وبانعدامِ قيمِ وأخلاق وإنسانية محتلٍّ، كان أوّل فرنسي يتنكّر لممارساته الهمجية، ويواجههُ بالقولِ بعد وقوفه مع الجزائر، وانضمامه إلى مناضليها في جبهةِ التحرير الوطنية:
«نشاطي هو تعبيرٌ عن التزامٍ سياسيّ واعٍ، تجاه البربرية الكولونيالية الفرنسية، ضدّ الشعب الجزائري، وعن التزامٍ بتعرية تناقضات هذا النظام الاستعماري، الذي بلغت درجة قمعه حداً، يمسّ حتى الفرنسيين»..
إنه موقف فيلسوف، عُرف عنه تضامنه مع الشعب الجزائري، وتنديده بالممارسات الإجرامية الفرنسية، ومساندته للمناضلين الذين وجدهم، يُقاسون حسب الثمن الذي يدفعونه، دفاعاً عن وطنهم وقضيّته الحقيقية.. فيلسوفٌ، لم يحمّل بلاده مسؤوليّة الحرب على الجزائر فقط، بل مسؤولية ما رافقها، من عملياتِ اعتقالِ وتعذيب وترهيب أبنائها.
كلّ هذا، كان سبباً في تحوّل موقفه من مرحلة النضال الثقافي والفكري، إلى مرحلة النضال الفعلي.. كان أيضاً، سبباً في تنظيمه شبكة دعمٍ مركزها فرنسا وأوروبا.. شبكة «حملة الحقائب» التي انضمّ إليها، كُثرٌ من المثقفين الفرنسيين الذين أقنعهم، بعدالة القضية الجزائرية، وضرورة العمل على خدمتها ومناصرة رجال ثورتها الوطنية التحريرية.
أعمالٌ كثيرة قامت بها هذه الشبكة، ولا سيما في فرنسا، وبشكلٍ سرّي، وكان أبسط أعمالها، جمع الاشتراكات والأموالِ والألبسة والأغطية والأدوية، من المهاجرين الجزائريين والفرنسيين، المؤيّدين والداعمين والمتعاطفين.
أمّا أخطر وأكبر مهامها، فنقلِ وتهريبِ الفدائيين، وإيوائهم مع أسلحتهم ووثائقهم وأموالهم.
جميع هذه المهام، شكّلت خطراً على فرنسا التي قامت بمراقبة هذه الشبكة وملاحقتها، وعملت على منعِ إصدار الكتب والمنشورات التي تصدر عن أعضائها.
رغم كلّ ذلك، تمكّن بعض المثقفين الفرنسيين من إصدار العديد من الكتب والمنشورات التي أثارت ضجّة، ليس في فرنسا فقط، بل في العالم بأكمله..
كان «جانسون» أكثر من أثار هذه الضجة، ولا سيما بعد إصداره «الجزائر الخارجة عن القانون» و»حربنا». الكتابين اللذيِن أصابا فرنسا بجنونٍ دفعها لمصادرتهما، وملاحقته والحكم عليه غيابياً بسببهما.
نعم، لاحقت السلطات الفرنسية «جانسون»، بسبب توثيقه لجرائمها التي كانت أفظع وأكبر من أن يُسكت عنها، ودون أن يكتفي بتناول الأسباب الحقيقية التي دفعتها لاحتلال الجزائر، ومنها فتح أسواقٍ لتصريف منتجاتِ مصانعها، فقد أشار أيضاً، إلى الجرائم التي ترتكبها بحقّ السكان الآمنين.. ذبحهم وإحراقٍ القرى التي يعيشون فيها، وكذلك تجهيلهم واستعمار أراضيهم، وغير ذلك مما دفعه لتأييد ثورة الشعب الجزائري ضد محتل أرضه، ولإعلان موقفه الداعم لاستقلاله وتحرّره:
«عندما اتّخذت موقفي المؤيّد لاستقلال الجزائر، وجدتُ نفسي مع شبكة دعمٍ حقيقية، وقد وُصفت بسبب موقفي هذا، ومن قِبَل الفرنسيين أنفسهم، بالخائن.. لستُ خائناً، بل أدافع عن القيم التى تنكّرت لها فرنسا، حتى قيمها التي خانتها هي نفسها»..