الثورة – رنا بدري سلوم:
عندما كتب الأديب عبد الله النفاخ مجموعته القصصية الأولى “وردة عند الغروب”، لم تكن إلا بداية لزرع بستان وارف الظلال تتدلى من أغصان أشجاره عناقيد إبداع حلوة المذاق، وما لبث أن احتوى الشمس في نتاجه الآخر “كل الشمس في قلبي”، ليلج باب الإبداع الروائي من خلال رائعته “على ضفة العدم”.. واليوم من خلال مجموعته “التوق إلى الفردوس” يقدم لنا إبداعاً متماسكاً تمثل في جزالة المعنى والكلمة والفكرة.
رؤية الناشر للمجموعة القصصية “التوق إلى الفردوس” إصدار دار توتل للطباعة والنشر، والتي كتبت على غلاف القصة، في محلها، ولعلي أضيف: إن القاص عبد الله النفاخ في مجموعته القصصية الجديدة بدا مختلفاً عما سبق لنا قراءته، من خلال توظيف اللغة الساخرة والمتهكمة في آن، بدءاً من العنوان كعتبة نصية، والذي بين في تصريحه لنا أن الفردوس ليس الجنة، بقدر ما هو الخلاص من النظام البائد الذي كنا نتوق للتخلص منه ومن ديكتاتوريته.
وهو ما نراه في العناوين، وما تترتب عليه القصص من آثار وانعكاسات تلك الدكتاتورية التي تعيش معنا وبيننا، ونكون ربما ضحايا لها، تترك في النفوس ندبات وآلام حياتية توثقها تلك القصص بعفوية واضحة.
قصة “كتاب في سوريا” كتب النفاخ: راقني عنوان كتاب وجدته على الرف في محل صديق يبيع الكتب النادرة، حدثته بأمره فابتسم وهو يقول: أتعرف قصة هذه النسخة..؟. قال: لا..
وبعد مرور سنوات.. يؤجل شراءها ليتركها إلى مشترٍ آخر، “فقد مات طالبها الأول، وفر من سعرها طالبها الثاني، ولا يعلم إلا الله ما سيكون مصيرها آخر الأمر!”.
هكذا صور القاص بأسلوبه الكتاب كحلم عند القراء والكتّاب الذين يقدسون القراءة”.
سبع وعشرون قصة قصيرة، نعيش تفاصيلها كل بحسب دوره الاجتماعي بلسان الفقير والغني والعاشق والزوج والكاتب والزوجة.
“في قصة إحراج”، كتب.. رحت أقطع الطرقات على قدمي حتى منزلي، بعد أن جربت أول مرة أن يسرقني سارق فلا أبتئس!”.
قصص واقعية كتبت بوصف مشهدي دقيق، ولغة السهل الممتنع، وكأن النفاخ يؤكد لنا في قصصه أنه يحمل مرآة واقعنا من دون تجميل ولا مواربة في آن فلا يوجد خيال علمي ولا يوجد وجدانيات تخرجنا مما نحن فيه.
قصص بدأها النفاخ بالإهداء إلى زوجته “رفيقة الدرب ملاكي: نسرين”، مكتفياً بذلك، وحين سألته عن أهمية تقديم الكتاب بعين ناقد، كان رده “إن مقدمات الكتب قد تغبن المجموعة القصصية حقها لذلك لا يحبذ الوسيط بينه وبين القارئ، ليبقي الانطباع عند القارئ”.
تتحدث المجموعة القصصية بسردها الأدبي المتكامل، بلسان شخصيات ثانوية ورئيسة، تشكل الأحداث هيكل القصص، منها يبدأ بحبكة ومشكلة تتصاعد ثم تصل إلى ذروتها قبل أن تنتهي بالحل والكثير منها تبقى نهاياتها مفتوحة.
أما على صعيد الزمان والمكان يعود بنا النفاخ في الكثير منها إلى مرحلة النظام البائد بانعكاساته الاقتصادية علينا ونذكر منها، قصة “رسول التقنين” عن تقنين الكهرباء الذي أحال أشد لحظات حياتهما جهنمية لحظات حميمية لا تنسى.
قصة “إخفاق موعد” وأجرة التكسي التي تقف عائقاً حتى على حضور أمسية.
وقصة “دمعة ” آذنة مدرسته الثانوية قبل عشرين عاماً في أسمال بالية تبحث عن قمامة.
وغيرها من القصص المؤثرة الناقدة بطرحها والموجعة بأثرها، تترك في ذهن القارئ تنهيدة طويلة يتساءل فيها إلى متى كل هذا البؤس؟!
وإن تمعنا بعنصر الرسالة أو الفكرة الرئيسة التي يحاول الكاتب إيصالها من خلال القصة، فهو صراع الخير والشر، الانتظار القلق، الخذلان الفقر الضعف القوة الوطن الانتماء الحب وكأنه يطلق بنات أفكاره من دون قيد أو شرط يمارس حريته التي كانت مقموعة سابقاً في طرحها الجريء العفيف والمفعم بالحياء إلى حد كبير.
في قصة كانت البداية “كتب” تحرك داخله شيء من حنين إلى الماضي، لولا أن أطلت عليه زوجه بوجهها المملوء طيبة من باب الحجرة لتقول أأعد لك فنجان قهوة؟ اصطرخ الوجهان في رأسه، وجه السابقة المملوء خبثاً ورغبة في التلذذ بمشاعره المهدورة، ووجه المخلصة التي تحملت كثيراً في سبيله”.
الصراع، والتوتر أو المشكلة التي تواجه الشخصيات الرئيسة للقصص تدفع أحداثها إلى الأمام، وبرأي وفق القاص في مواءمة سردها الحكواتي، وقد دارت بعض القصص بحوار الشخصيات، الذي يكشف عن شخصياتهم ويطور العلاقة بينها.
أما عن نهاية القصص كعنصر أخير من عناصر القصة، قد يبقى الصراع في نتائج الأحداث، فيما بدت بعض القصص مفتوحة أو مغلقة النهايات، بكلا الحالين أدت دورها وتركت أبواب الفردوس مفتوحة، وهو ما أراده لنا القاص بأسلوبه الأدبي الشائق والشفيف.