الثورة – فؤاد الوادي:
يواجه الجيش العربي السوري الجديد الكثير من التحديات اللوجستية والتسليحية، في ضوء الواقع العسكري المفكك والمهلهل الذي خلفه النظام المخلوع بعد حرب وحشية ضد الشعب السوري استمرت لأكثر من 14 عاما.
الجيش الجديد، الذي وُلد من رحم المعارك والكفاح والإيمان الراسخ بالثورة، يتصدر اليوم المشهد السوري والإقليمي والدولي، في ظل التحديات الكبرى التي تواجه الدولة السورية التي بدأت الخُطا على مسار التعافي والنهوض، المسار الذي بدأ محفوفا بالصعوبات والعراقيل التي لا تزال بعض الأطراف الداخلية والخارجية تضعها في طريقه.
مقاربات التشابك والتعقيد
ينطلق الجيش العربي السوري، في رؤيته الجديدة، من مقاربته لتلك التحديات التي تضفي عليها المتغيرات والتحولات الجيوسياسية مزيدا من التشابك والتعقيد، والتي تدفعه باتجاه العمل السريع على بناء قاعدة تنظيمية صلبة، تكون ركيزة أساسية لجيش قوي يكون رادعا لكل من يفكر بالعبث باستقرار وأمن البلد، وبنفس الوقت يشكل ثقل التوازن في لعبة المصالح الإقليمية والدولية، بهدف إنتاج حلول تلبي طموحات الشعب السوري وتحاكي الثوابت والسيادة الوطنية.
منذ بدايات التحرير، سارعت وزارة الدفاع السورية إلى البدء بعملية تنظيم أولية لكوادرها وضباطها، عبر جملة من التعيينات والترقيات، التي بدأت بترفيع قيادات عليا، مثل وزير الدفاع، مرهف أبو قصرة، ورئيس هيئة الأركان، علي نور الدين النعسان، إلى رتبة لواء، تلتها خطوات تنظيمية أوسع شملت تعيين قادة الفرق والألوية، وتشكيل فرق عسكرية جديدة ترتكز على آلية التطوع بدلا من التجنيد الإجباري، مع استيعاب عشرات الآلاف من العناصر، بينهم مقاتلون من عدة فصائل مسلحة.
كما رافق هذه العملية تأسيس لجان متخصصة مثل “اللجنة العليا لتنظيم البيانات العسكرية” و”لجنة الهيكلة”، التي كانت مهمتها توثيق الموارد البشرية والمادية ووضع قاعدة بيانات موثقة تُمكّن من إحصاء الفصائل المسلحة وتسليحها، تمهيدا لدمجها ضمن الجيش النظامي الجديد.
كما تزامن ذلك مع سلسلة من اللقاءات بين وزير الدفاع وقيادات فصائل المعارضة، بما فيها فصائل درعا و”اللواء الثامن”، بهدف الحل والاستيعاب ضمن الجيش، فيما استمرت الخلافات والتوترات مع ما يسمى بـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، رغم الوصول إلى تفاهمات جزئية مع وزارة الدفاع تمخضت عن انسحابها من بعض المناطق الاستراتيجية في حلب وسد تشرين.
كما بقيت الفصائل الخارجة عن القانون في السويداء في طور التفاوض، لا سيما مع تأسيس “المجلس العسكري للسويداء”، وجرى ذلك بالتوازي مع تفعيل قوات الشرطة، ودمج العناصر الأمنية ضمن مؤسسات وزارة الداخلية.
معايير عسكرية احترافية
أكد العميد الدكتور عبد الله الأسعد، عميد كلية العلوم السياسية بالجامعة الأهلية، في حديث خاص لصحيفة “الثورة”، أن تأسيس الجيش السوري في هذه المرحلة المتبدلة من حياة البلاد، ليست سهلة، ولا يمكن أن تسير دون عقبات، وخاصة أن التأمينات الإدارية ليست متوفرة، والبنية التحتية متهالكة، وهو ما سوف يؤدي إلى الاصطدام بموضوع الحفاظ على العمود الفقري للجيش دون المساس به، والسير جنبا إلى جنب مع إنشاء هيكل تنظيمي عسكري مناسب لجغرافية البلاد أولا، ومن ثم إنشاء جيش قوي يستطيع القيام بالمهام القتالية للدفاع عن البلاد.
على هذا النحو، تبرز مسألة الاستيعاب والتنظيم كتحدٍ آخر، لا سيما فيما يتعلق بضرورة بلورة معايير عسكرية احترافية في التعيينات يكون مصدرها الرئيس الكليات العسكرية، وكذلك فيما يتعلق بشروط الانتساب للقوات المسلحة، والتي يجب أن تكون مراعية للحالة الوطنية الجامعة التي لا تستثني أي لون أو مكون من مكونات الشعب السوري.
هذا بالإضافة إلى الأمور التي ترتبط بالانضباط والكفاءة. ضمن هذا السياق، يتابع العميد الأسعد حديثه بالقول: “إن أهم العقبات التي قد تواجه وزارة الدفاع، هي الصعوبة في إنشاء الإدارات الكفيلة بتأمين الجيش، وتأمين السلاح الثقيل، والتعاقد مع الجهات الدولية من أجل شراء صفقات السلاح، ورفع العقوبات السابقة التي تقيد هامش عمل الإدارات، بالإضافة إلى بؤر الميليشيات التي لا تزال حتى الآن ترفض الاندماج في الجيش وفقًا لإيديولوجيتها التي نشأت عليها والمناهل المتعددة التي تربت عليها تلك الفصائل”.
مؤسسة وطنية جامعة
انطلاقا من ذلك، فإن الجهود المتواصلة لوزارة الدفاع تعكس سعيها لاستيعاب كل المجاميع العسكرية بشتى أشكالها، بغض النظر عن مرجعياتها وولاءاتها الإيديولوجية والسياسية، وهو ما يوجه العمل نحو مزيد من الإصلاح المؤسسي والسياسي لتعزيز تماسك الجيش ووحدته وضمان تحوله إلى مؤسسة وطنية جامعة قادرة على المساهمة في تحقيق السلام والاستقرار في ظل الحراك السياسي والدبلوماسي والتنموي الذي تشهده سوريا.
وفي هذا الإطار، يشير المحلل العسكري الأسعد إلى ضرورة تشكيل جيش قوي على أسس تنظيمية انضباطية وفق محددات السلوك العسكري، وأسس الانضباط وأنظمة الخدمة، في ظل العقبات التي تواجهها الدولة في بعض الملفات، مثل طموحات البعض بالانفصال والتقسيم، والتي لا يمكن ردعها وتبديدها إلا بوجود جيش متماسك وقوي وجامع لكل مكونات الشعب السوري.
في السادس عشر من آذار/مارس الماضي، قال رئيس شؤون الضباط في وزارة الدفاع السورية، العميد محمد منصور، في تصريح لوكالة “سانا”: “إن إعادة بناء الجيش العربي السوري تعتمد على مزيج من الخبرة والتحديث، وإن الضباط المنشقين يمتلكون خبرات ميدانية ثمينة، وسيتم توظيفهم بحسب تخصصاتهم وحاجة القوات المسلحة، لضمان نقل خبراتهم إلى الأجيال الجديدة، بما يعزز الجاهزية القتالية ويرسخ العقيدة العسكرية السورية القائمة على الدفاع عن الوطن وسيادته، وسيكون لهؤلاء الضباط دور أساسي ومحوري”.
وأضاف منصور، أن الوزارة تضع آليات لضمان استفادة الجيش من خبرات الضباط المنشقين بالشكل الأمثل، وتعتبرهم جزءا أصيلا من المؤسسة العسكرية ومن الواجب تكريمهم وإعطاؤهم المكانة التي يستحقونها.
وفي السابع من شباط/فبراير الماضي، قال وزير الدفاع، مرهف أبو قصرة، لصحيفة “واشنطن بوست” الأميركية، إن نحو 100 فصيل مسلح في سوريا وافقوا على الانضمام لوزارة الدفاع.
بنية تنظيمية متماسكة
وقبل ذلك بنحو شهر، قال أبو قصرة، في حوار مع مجلة “المجلة”، إن العمل جارٍ على بناء جيش يحبه الشعب، وإن هيكلة الجيش العربي السوري ستُعاد وفق قوانين، وهذه القوانين ترسم المسار العام لبناء المؤسسة العسكرية.
وبحسب أبو قصرة، فإن “أولوياتنا الآن هي نقل الفصائل باتجاه المؤسسة العسكرية، وأيضا توزيع هذه القوات العسكرية حسب الجغرافيا السورية”.
أوضح وزير الدفاع أن لديه أهدافا مرحلية كل ستة أشهر يجب إنجازها خلال هذا الوقت، وكل فترة يُعاد وضع قائمة أولويات بعد الانتهاء من المرحلة الأولى للانتقال إلى المراحل الأخرى، مشيرا إلى الانتقال من اللقاءات بالفصائل العسكرية إلى الخطوات العملية.
يعكس حديث وزير الدفاع الجهود الحثيثة التي تقوم بها وزارة الدفاع لبناء بنية تنظيمية متماسكة تكون قاعدة متينة لبناء جيش وطني قوي ومؤثر قادر على ضبط وحماية أمن واستقرار الوطن.
لكن هذه الجهود قد تصطدم بإصرار البعض على التغريد خارج السرب الوطني، كما هو حال “قسد” التي لا تزال خارج سياق الالتزام باتفاق العاشر من آذار/مارس الذي وقعه الرئيس الشرع، وقائد “قسد”، مظلوم عبدي، والذي يقضي بدمج المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرقي سوريا التابعة لـ”قسد” ضمن مؤسسات الدولة السورية.
بيد أن مواجهة التحديات الأمنية لا تقتصر على فجوات البنية وأسئلة القدرة وامتلاك الأدوات، بل تتجلى أساسا في التركة المعقدة للنظام المخلوع، لا سيما خريطة الطموحات الانفصالية والأمنية التي تتوزع بين “قوات سوريا الديمقراطية”، والمجموعات الخارجة عن القانون في السويداء، الأمر الذي أدى إلى إفراز واقع مضطرب يتطلب “توازنات اضطرارية”، أكثر منه بناءً مؤسساتيا متماسكا.
توافقات أمنية مستقرة
في مقابل هذه التشظيات، هناك ملفات سيادية – وفي مقدمتها ضبط الحدود ومكافحة الإرهاب، لا سيما خطر “داعش” – تلك الملفات التي سوف تشكل اختبارا حقيقيا للجيش السوري، خصوصا بعد انضمام سوريا إلى التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب.
وهذا يقودنا إلى حقيقة التشابك والترابط بين معظم الملفات الداخلية والخارجية، وبما يفرض على دمشق بناء توافقات أمنية مستقرة مع دول الجوار، مثل تركيا والأردن والعراق، والكيان الإسرائيلي.
من هنا، تبدو منهجية “المسارات المتوازية” هي الوسيلة الأفضل والأنجع، لتحقيق الانسجام للدور الجديد للجيش السوري، ضمن الأدوار المتشابكة والمعقدة لضرورات ومتطلبات المرحلة الحالية والقادمة.
بناءً على هذا الواقع، يصبح تشكيل جيش وطني متماسك البنية والأطر والمضمون، أمرا في غاية الأهمية، على اعتبار أن ذلك سيكون الركيزة الأساسية لإعادة ضبط التوازن الأمني الوطني والإقليمي.
ويمكن العمل على ذلك من خلال عدة مسارات، تبدأ من مقاربة العقيدة العسكرية وفقا للمنظور الوطني الذي يقوم على اعتبار الجيش مؤسسة لكل السوريين بعيدًا عن الأدلجة، بما يعكس تنوع سوريا القومي والديني والثقافي، وكذلك تقييم سياسات الاستيعاب وترميمها عبر هندسة معلوماتية أمنية شاملة، تستوعب الفواعل غير النظامية وتُعيد تأطيرهم وتأهيلهم ضمن بنية الجيش، مع بناء قدرة فاعلة على مواجهة التهديدات المستمرة، مثل “داعش”، والجريمة المنظمة، وفلول النظام.
وهذا المسار يقتضي أيضا وضع آليات دقيقة لعودة الضباط المنشقين وغير المتورطين في الدم السوري، وفق معيار وظيفي ومهني صارم، وقد بدأت وزارة الدفاع بهذه الخطوة بشكل متسارع في الآونة الأخيرة.
أما بالنسبة للهيكلة العسكرية الوطنية، فيجب أن تتجاوز النماذج الكلاسيكية في بناء الجيوش، والانتقال نحو جيش “رشيق” متعدد المهام، مرتبط بمآلات الاندماج في المشهد الدولي ضمن عقيدة جديدة تقوم على حماية الوطن لا السلطة، إلى جانب بناء منظومة تعليم عسكرية حديثة، وتحديد صارم لمعايير الانتساب والأدوار والمهام.
كما أنه من المهم دسترة عمل المؤسسة العسكرية والأمنية مع التركيز على تحديد المهام داخلها، إضافة إلى إخضاعها للرقابة البرلمانية.
كما أنه من الأهمية الوطنية بمكان، التأسيس لعلاقات عسكرية-مدنية متوازنة تُسهم في خلق قطاع عسكري وأمني ذي مهارة عالية المستوى، بالإضافة إلى الإسهام في إرساء السلم المجتمعي.إن إعادة بناء الجيش والأمن في سوريا ما بعد النظام المخلوع لا تكتفي بتغيير الوجوه أو إعادة تدوير الفواعل، بل تقوم على تفكيك البُنى اللامركزية التي نشأت عقب السقوط، وبلورة جيش وطني بعقيدة وطنية جامعة، قادر على خلق توازن داخلي وخارجي فعال، وشبكة علاقات خارجية واقعية، تُخرج سوريا من منطق الاستثناء الأمني إلى قاعدة الدولة القانونية، والانتباه مبكرا لضرورة وجود ديناميات وطنية (حكومية وغير حكومية) تفرز استراتيجية أمنية تراعي كافة الأبعاد الأمنية الأخرى.
فمعادلة الأمن في سوريا الجديدة تستوجب تعزيز التنسيق والمشاركة ما بين فواعل القطاع الأمني وتوسيع عناصره ليشمل الفواعل المدنية المجتمعية.
إن الجيش السوري الجديد، بقدر ما يعكس هوية الدولة ومجتمعها وتطلعاتها المستقبلية، بقدر ما يجسد حالة التغيير التي أعقبت انتصار الثورة وسقوط النظام، لجهة بناء جيش يحمي السوريين ويدافع عنهم ضد الظلم والعدوان، وليس جيشا يقتلهم ويقصفهم ويدمر مدنهم وقراهم.
جيش متعدد المهام
أما بالنسبة للهيكلة العسكرية الوطنية، فيجب أن تتجاوز النماذج الكلاسيكية في بناء الجيوش، والانتقال نحو جيش “رشيق” متعدد المهام، مرتبط بمآلات الاندماج في المشهد الدولي ضمن عقيدة جديدة تقوم على حماية الوطن لا السلطة، إلى جانب بناء منظومة تعليم عسكرية حديثة، وتحديد صارم لمعايير الانتساب والأدوار والمهام.
كما أنه من المهم دسترة عمل المؤسسة العسكرية والأمنية مع التركيز على تحديد المهام داخلها، إضافة إلى إخضاعها للرقابة البرلمانية.
كما أنه من الأهمية الوطنية بمكان، التأسيس لعلاقات عسكرية-مدنية متوازنة تُسهم في خلق قطاع عسكري وأمني ذي مهارة عالية المستوى، بالإضافة إلى الإسهام في إرساء السلم المجتمعي.إن إعادة بناء الجيش والأمن في سوريا ما بعد النظام المخلوع لا تكتفي بتغيير الوجوه أو إعادة تدوير الفواعل، بل تقوم على تفكيك البُنى اللامركزية التي نشأت عقب السقوط، وبلورة جيش وطني بعقيدة وطنية جامعة، قادر على خلق توازن داخلي وخارجي فعال، وشبكة علاقات خارجية واقعية، تُخرج سوريا من منطق الاستثناء الأمني إلى قاعدة الدولة القانونية، والانتباه مبكرا لضرورة وجود ديناميات وطنية (حكومية وغير حكومية) تفرز استراتيجية أمنية تراعي كافة الأبعاد الأمنية الأخرى.
فمعادلة الأمن في سوريا الجديدة تستوجب تعزيز التنسيق والمشاركة ما بين فواعل القطاع الأمني وتوسيع عناصره ليشمل الفواعل المدنية المجتمعية.
إن الجيش السوري الجديد، بقدر ما يعكس هوية الدولة ومجتمعها وتطلعاتها المستقبلية، بقدر ما يجسد حالة التغيير التي أعقبت انتصار الثورة وسقوط النظام، لجهة بناء جيش يحمي السوريين ويدافع عنهم ضد الظلم والعدوان، وليس جيشا يقتلهم ويقصفهم ويدمر مدنهم وقراهم.