الرّقابة في زمن الفيض الرّقمي

في زمنٍ ما مضى، لم يكن فيه ما أصبح يعرف بالأنترنت كانت بوابات المعرفة ضيقة، تلك التي يمر من خلالها كل ما يصل إلى الجمهور من معلومات، وأفكار، وذلك عندما كانت الرقابة بمثابة حارسٍ صارمٍ، يقيّد المحتوى الذي ينشر، أو يبث و ينظمه، ويحدد ما يُسمح بنشره، وما يُحظر لضمان جودة المحتوى، وملاءمته للقيم، والمبادئ السائدة في المجتمع.. وهذا الأمر له مزاياه إذ إنه يساعد على حماية المجتمع من الأفكار الضارة، والمحتوى غير اللائق، أو المسيئ، والمثير للجدل، ويضمن انتشار معلومات موثوقة، ومسؤولة.

في ذلك الوقت لعبت الدولة دوراً محورياً في الارتقاء بالثقافة، وبذائقة الجمهور الفنية من خلال وسائلها التقليدية، فكانت المسارح، والسينما، وقاعات المعارض بمثابة منابر ثقافية تقدم للناس عروضاً مسرحية، وأفلاماً سينمائية، وفعالياتٍ فنية تثري معرفتهم، وتنمي ذائقتهم، كما لعبت الصحف، والمجلات دوراً مهماً في نشر الوعي الثقافي من خلال المقالات، والدراسات، والأخبار المتعلقة بالأدب، والفنون، والتاريخ ولم تقتصر جهود الدولة على ذلك فقط بل قامت بإنشاء مكتباتٍ عامة تتيح للجمهور الوصول إلى الكتب، والمجلات مجاناً، ودعمت الفرق الفنية والمسرحية، وساهمت في تنظيم المهرجانات، والفعاليات الثقافية.. وباختصار يمكننا القول: إن الثقافة في زمن الوسائل التقليدية كانت تزدهر رغم صرامة الضوابط التي تحكمها إذ بفضل تلك الجهود ارتقى الجمهور، وأصبح الفن بأشكاله جزءاً من حياته.

ولكن مع ثورة التكنولوجيا الرقمية، تغيرت هذه المعادلة بشكل جذري فقد انفجرت بوابات المعرفة، وانفتحت على مصراعيها، وضاعت الرقابة على ما بات يصل إلى الجمهور عبر الوسائط الحديثة، فتدفق سيل هائل من المعلومات، والأفكار من كل حدبٍ وصوب، وبدأ النموذج الرقابي التقليدي بالانهيار، وتراجعت معه مبيعات الكتب، ولم تعد الصحف، والمجلات، المصدر الرئيسي للأخبار، والمعلومات.

إلا أن هذا لا يعني أنه تم التخلي عن الوسائل التقليدية بشكلٍ كاملٍ فهي ما زالت تلعب دوراً هاماً في الحفاظ على التراث الثقافي، ونشر المعرفة بين الأجيال.

كما أن بعض الدول قد نجحت في دمج الوسائل التقليدية مع الوسائل الحديثة لخلق تجربة ثقافية غنية ومتنوعة، مثل إنشاء مواقع إلكترونية للمتاحف، والمكتبات، وعرض المسرحيات، والأفلام عبر شبكة المعلومات.

ومع ازدهار مواقع التواصل الاجتماعي، ومنصات الفيديو، بات بإمكان أي شخصٍ نشر أي محتوى على المنصات الرقمية دون قيود، أو ضوابط، ودون الحاجة إلى الحصول على موافقة، أو تصريح مسبق، ولو كان المحتوى مسيئاً، أو عنيفاً، أو غير أخلاقي، ودون خوف من المساءلة، أو العقاب، وانتشرت المدونات، والمنتديات، والمنصات التشاركية التي دخلت إليها الدعاية وأصبحت مصدر دخل مادي أيضاً، وفاضت بكمّ هائل من المنتج المتداول بحرية تامة.

وهكذا انفلتت عملية إنتاج المحتوى، والوصول إليه من قبضة الرقابة التقليدية، وكم هائل من المعلومات المتاحة على الإنترنت بطريقة لا يمكن السيطرة عليها، أو مراقبتها بشكل كامل.. وهذا بدوره ما أدى وبشكل سريع إلى فوضى عارمة في عالم المعلومات، وتنامت بالتالي بشكلٍ مخيف ظاهرة انتشار الشائعات، والأخبار الكاذبة، والأفكار المتطرفة،والمعلومات المضللة والتافهة، والأخرى المثيرة للجدل سياسياً، وعقائدياً، وإعلانياً.. ومن دون أي تدقيق من قبل جهاتٍ موثوقة.

وفي ظل هذا الانفلات الرقابي، والفيض الرقمي بات من الصعب على الجمهور التمييز بين المعلومات الصادقة والمعلومات المضللة، أو الكاذبة. كما تفاقمت ظاهرة التطرف، وانتشار خطاب الكراهية على المنصات الرقمية نتيجة لغياب الضوابط، والرقابة على ما ينشر مما أدى إلى تفاقم التوترات الاجتماعية،والسياسية في العديد من دول العالم.

فالرحلة من البوابة الضيقة إلى الفوضى اللامتناهية أثارت تحدياتٍ جوهرية في مجال إدارة المعلومات والمحتوى، إلا أن هذا لا يعني العودة إلى عصر الرقابة التي تعوق حريةَ التعبير، وتقيّد التنوع الفكري.. فالتحدي الحقيقي اليوم هو إيجاد آليات جديدة للرقابة، والتنظيم الرقمي، وهذا يتطلب جهوداً مشتركة بين الجهات الحكومية، والتقنية، والمجتمع المدني لوضع ضوابط، وآليات رقابية جديدة تتناسب مع طبيعة البيئة الرقمية المعاصرة، وما على المجتمع سوى البحث عن حلول مبتكرة تحافظ على سلامة المعلومات المتاحة للجمهور دون المساس بحرية التعبير.

في زمن فوضى المعلومات بات الأمر لا يتعلق بتحديد أي وسيلة هي الأفضل ما بين حديث وتقليدي، بل بخلق بيئة ثقافية غنية، ومتنوعة تتيح للناس فرص اكتشاف الإبداع، والاستمتاع بجمال الفنون.. كما بات على كل فردٍ أن يكون بمثابة بوابة الرقابة الخاصة به، وأن يمارس مهارات التفكير النقدي لضمان سلامة أفكاره، ومعتقداته.

آخر الأخبار
إنزال أول كابل بحري دولي يربط سوريا  بالعالم  سوريا تعزز موقعها الاستثماري في "مبادرة مستقبل الاستثمار 2025" بالرياض   الدواء السوري يعود إلى الواجهة   دعم منظومة مياه الشرب في بصرى الشام بدرعا   مسؤول أممي: إعمار سوريا ضرورة لاستقرار المنطقة الذهب والمعادن الثمينة.. فرصة لتعميق التعاون بين سوريا وأذربيجان أول سفير تركي في دمشق منذ 2012 ..ترسيخ للعلاقات والتعاون الاستراتيجي بمشاركة 50 صناعياً.. انطلاق معرض خان الحرير للألبسة الرجالية في حلب بحث تعزيز التعاون بين جامعة حلب ومنظمة "إيكاردا" و "السورية للبريد" هاكان فيدان يعيّن نُوح يلماز سفيراً لتركيا في سوريا "المؤتمر الطبي الأوروبي العربي الأول".. شراكة للعلم والحياة قطر وباكستان تجددان دعمهما لوحدة وسيادة سوريا الأمم المتحدة: 300 ألف لاجئ سوري عادوا من لبنان إلى وطنهم منذ مطلع 2025 وزير التعليم العالي: سوريا تنهض بالعلم من جديد وتستعيد مكانتها الطبية في العالم مايك بومبيو: أحمد الشرع هو “الرهان الأفضل” لمستقبل سوريا والمنطقة مئة يوم على اختفاء "حمزة العمارين" في السويداء ومطالب حقوقية بكشف مصيره أسعار المدافىء في حلب تحول بين المواطن ودفئها.. والغلَبة للبرد..!   وفد إعلامي سوري يختتم زيارة إلى قطر لتعزيز التعاون الإعلامي بيروت تُعين هنري قسطون سفيراً لها في سوريا قطاع الكهرباء.. فرص واعدة وتحديات قائمة