الثورة – ديب علي حسن:
يحفر الإبداع مجراه على جدار الزمن قد ينكفئ حيناً ويهمله الناس لفترة من الزمن، لكنه لم ولن يجف ولن يموت أبداً.
ما أكثر المبدعين الذين مازالت في الذاكرة من مراحل الطفولة واليفاعة ألوان إبداعهم نظن أنها غابت لكنها تطل من جديد..
محي الدين فارس شاعر عربي من السودان عاش في مصر..
ترك آثاراً شعرية متميزة ولاسيما في الطبيعة وقراءة، بل استشراف الواقع السياسي القادم في معركة الوجود مع الكيان الصهيوني.
مع فصل الخريف الذي أبدع في وصفه نعود إلى شاعرنا المنسي ونقدم بعضاً من المحطات في حياته.
– بطاقة..
محيي الدين فارس أحمد عبد المولى ولد عام 1936 في جزيرة أرقو- قرية الحفيرة دنقلا- الولاية الشمالية السودان.. أتم دراسته الابتدائية والمتوسطة والثانوية في مصر، عمل محاضراً بكلية بخت الرضا، ومفتشاً فنيّاً في تعليم (ود مدني)، ثم تفرغ لإنتاجه.
وهو صوت شعري أعلن عن نفسه منذ أن كان طالباً في الثانوية بالإسكندرية، عندما هاجرت أسرته إلى هناك من موطنها في أقصى شمال السودان.
بدأت الاتجاهات الجديدة في القصيدة العربية من حيث الشكل والمضمون وعندما انطلقت دعوات الواقعية الاشتراكية في الأدب العربي كان محي الدين فارس أحد فرسان الحلبة، وفي لحظة انتقال القصيدة العربية من العمود إلى شعر التفعيلة.
كان محي الدين فارس من أول المجددين وفي ظل هذا التجديد كان فارس حارساً للعربية في جزالة المفردات وصحيح اللغة.
عاش الشاعر المرهف معاناة قاسية وصبر عظيم على ابتلاء الله له بالمرض الذي أدى إلى بتر ساقه ثم امتد لتبتر الثانية.
توفي يوم الخميس 15 أيار 2008م.
– من أعماله..
نشر له في العديد من الصحف والمجلات على امتداد الوطن العربي شارك في العديد من المهرجانات المحلية والعربية، قد كان جميلاً مثل الأمير دواوينه الشعرية:
– الطين والأظافر 1956..
– نقوش على وجه المفازة 1978..
– صهيل النهر..
– قصائد من الخمسينيات..
– القنديل المكسور 1997.
من إبداعه
لم يكن يعيش خارج هموم الأمة وقضاياها أبداً، ولاسيما قضية فلسطين وها هو في قصيدته
(إسرائيلُ.. والنوافذ المغلقة)
يقرأ القادم وكأنه يرى ما يجري اليوم يقول:
إنسانُك اللا منتمى
في السفحِ لم يقاوم
يدُقُّ في أعماقهِ.. ناقوسُ خوفٍ دائم
يفرُّ مِن وجهِ المنايا.. دائم الهزائم
ألمحُ في عيونِهِ طيفَ غريب هائم
تلفتت عبرَ المواني
والوجودِ القاتم
من غير ما هويَّةٍ من غير ما عواصم
يبحثُ عن جذورِهِ على رصيفٍ العالم
قد انزوى مكتئباً يقرعُ سِنَّ نادِمِ
أنفاسُهُ تطِنُّ في قلبِ السكونِ النائم
قد جاءَ من أوكرانيا
قد جاء من قلبِ المنافي
عاد من مقدونيا
تطلَّ من عيونه سهولُ كالفورنيا
لأنَّهُ يشتاقُ للكفيار والشَّمبانيا
روائحُ البارودِ لا تروقُه
لكنَّها روائح العطورِ والكولونيا
فلم تُعدْ أرضُ المعادِ.. لم تعدْ يوتوبيا
عدوَّةَ السلامِ لا تحاوري
حفائر.. بيتك قد قامت على حفائر
وملتقى مقابرِ
فسلِّمي.. وسلِّمي الآنَ قبل باكرِ
وخلِّفي مزارعي.. وخلِّفي بيادري
لابُدَّ من يومٍ ولإن طال المدى
فوجهُ يافا لم يعُدْ يلقاكِ بالبشائرِ
تراجَعي… تراجَعي
تراجَعي… وراجعي
كشف حسابٍ خاسرِ
جندُك كم ذا حاربوا من دونِ ما دوافع
فحبهم للذهبِ اللماعِ… ولمنافع
قلوبُهم شتَّى الهوى غريبةَ المنازع
تظلُّ فى مهْوَى الدُّجى.. وزحمة الزعازِع
أين اعتدادك القديمُ في الزمانِ الخادع
وأين ذاكَ الأعورُ المجنونُ
ذو المطامع؟
كخطِّ بارليفٍ هَوَى في عتمةِ المعامع
فحدِّقي… وحدِّقي
فالواقعُ المريرُ غير رائع
وجندنا.. ما أروع الكفاحا
خاضُوا الغمارَ موقعاً.. وموقعاً وساحاً
وأطلقوا أجنحةً فسابقوا الرياحا
وعانقُوا بطاحهم.. فأصبحتّ بطاحا
من يحمل السلاح خائفاً
ما حمل السلاحا!!
سنلتقي
في ذات يومٍ نلتقي
من شارعٍ لشارعٍ وحارةٍ لحارةٍ
وخندقٍ لخندقٍ
من عاصفٍ مدمرٍ يسدُّ باب الأفق
في فيلق من خلفه ينصبُّ ألافُ فيلق.
وفي وصف الطبيعة يقول في قصيدته
(بين أحضان الطبيعة):
بلادنا خميلة ضاحكة وجدول
وسلسل منغم يشدو لديه سلسل
فعندنا الخريف يمشي خطوه قرنفل
والفجر من ضفافنا الخضراء لا ينتقل
يحمل إبريق الصباح فالحياة منهل
يمتد ما شاء الصبا هنا الصبا لا يرحل
طيورنا حديقة الألوان كم تنقل
فوق الغصون تارة مقيلها والمنزل
وتارة على الجريد ترتقي وتحجل
والريح تنسج الظلال تارة وتجدل
مجنونة عبر المدى زاجلة تهرول
وللرعاة قصص وأغنيات ترسل
هنا الجمال عندنا مساكب لا تبخل.