الثورة – عمار النعمة:
في قلب المشرق، حيث تتداخل الحضارات كانت الموسيقا في سوريا أكثر من مجرد أنغام، إنها صوت الذاكرة الجماعية، وتعبيرٌ فني عن الهوية، وشاهد حيّ على تطوّر المجتمع.في كتابه “الموسيقا في سوريا- أعلام وتاريخ ،” يسرد الباحث الموسيقي صميم الشريف فصولاً غنية من تاريخ هذا الفن، بدءاً من أواخر القرن التاسع عشر وصولاً إلى نهاية القرن العشرين، متناولاً أسماءً لامعة، وتحولات فنية، ومؤسسات شكّلت هذا المشهد الفريد.يركز الجزء الأول من الكتاب على مرحلة التأسيس الموسيقي، مستعرضاً حياة 36 فناناً وموسيقياً ولِدوا بين عامي 1885 و1930، يكشف الشريف عن الدور الحاسم الذي لعبته مدينة حلب في تطوير فن الموشح حتى أصبح ما يُعرف اليوم “بالموشحات الحلبية”، ويشير إلى انتشار الأغاني الشعبية البسيطة المستمدة من الحياة اليومية، لتتحول مع الزمن إلى تراث فولكلوري متداول.كما يستعرض تأثير فن الدور المصري على المشهد المحلي، ويناقش قوالب التأليف الموسيقي مثل السماعي واللونغا والدولاب، مبيناً كيف خدم كل قالب الغناء العربي من الناحية الجمالية والتعبيرية.ينتقل القسم الثاني إلى مرحلة ما بعد الاستقلال السوري عام 1946، إذ بدأت الموسيقا تدخل منعطفاً جديداً، أصبح للمدارس والمعاهد الموسيقية الرسمية، بالإضافة إلى الأندية والإذاعة، دور حاسم في إثراء المشهد الموسيقي السوري، حيث توسّع استخدام الآلات الغربية مثل الغيتار، البيانو، الماندولين، وحتى الأورغ الكهربائي، وشهدت سوريا نشوء فرق موسيقية متنوعة، منها فرق الجاز والفرقة السيمفونية الوطنية.
يخصص الكتاب قسماً ثالثاً لسيرة أكثر من خمسين مؤلفاً وملحناً وعازفاً ومطرباً من سوريا وفلسطين والعالم العربي، مقيمين في سوريا، حيث يتم سرد حياتهم وفق التسلسل الميلادي.
أصالة تأبى الغياب
تمثّل الموسيقا الشرقية في سوريا أحد أعمق تجليات الهوية الثقافية، فهي ليست مجرد أنغام تتردد في فضاء التراث، بل هي خيطٌ ناعم يربط الماضي بالحاضر، ويعكس الرؤية الفنية للشعب السوري عبر قرون من الإبداع والتفاعل الحضاري.ينقسم الفن الموسيقي في سوريا إلى فرعين رئيسيين: الفن الغنائي والفن الآلي، ويتفرع عنهما عدد من القوالب التي شكلت نسيج التأليف الموسيقي والغنائي، في الجانب الغنائي التقليدي، نجد القصيدة المغنّاة التي تحمل طابعاً كلاسيكياً رصيناً، والموشح الذي بلغ أوجه في الموشحات الحلبية، والمواليا التي تتيح التعبير العاطفي الحر، بالإضافة إلى الغناء بكلمة “يا ليل”، والأهزوجة، والأغنية الشعبية، والابتهالات الدينية.أما في الجانب الآلي، فقد ورثت سوريا عن الموسيقا العثمانية قوالب مثل” البشرف” يستخدم كمقدمة موسيقية بتقليدية راقية، والسماعي واللونغا: تعبّر عن الألحان المرحة والبراعة التقنية، والتحميلة والدولاب، تقدم مساحة للارتجال والتمهيد اللغوي للمقطوعات الغنائية.هذه القوالب شكّلت بمجموعها العمود الفقري للهوية الموسيقية السورية، خصوصاً حين امتزجت مع روح المدن، مثل حلب ودمشق، في تجليات فنّية خالدة.
منذ ثلاثينيات القرن العشرين، بدأت موجة جديدة من التحديث الموسيقي تجتاح الأقطار العربية، وسوريا كانت في قلب هذا التحول، حيث ظهرت أنماط جديدة مثل القصيدة الغنائية، والأغنية الدارجة، والأغنية الشعبية المطورة، إلى جانب قوالب غنائية مستوحاة من الغرب مثل: المونولوج والديالوج، والأغاني الراقصة، والموسيقا التعبيرية. إن الموسيقا في سوريا ليست مجرد أنغام وأصوات، بل هي حكاية ثقافية متكاملة تتحدث بلغة الفن عن وجدان شعب، ويُعد هذا الكتاب مرجعاً ثقافياً وفنياً ليس فقط لتاريخ الموسيقا في سوريا، بل لفهم التحولات التي رافقتها، بأسلوب بحثي دقيق ورؤية موسيقية غنية، ووضع صميم الشريف نصب عينيه مهمة صعبة “رسم خريطة موسيقية لسوريا” خلال قرن كامل، مع إضاءة على أبطالها الذين نحتوا إرثهم في الذاكرة السمعية للشعب.