الثورة – ديب علي حسن:
هذا وقت أن يكون في العالم صوت آخر غير القتل والموت والدمار.. لقد اتسعت وحشية الإنسان حتى غدا أخطر من أي كواسر أخرى، هذا ما كان يحذر منه المفكرون والمثقفون.
منذ نصف قرن ومع بداية طغيان التحول نحو التقنيات التي تسخر للموت كان هذا التحذير، من سارتر وبوفوار وتشومسكي وشاكر مصطفى ومحمد أركون وغيرهم، وها نحن اليوم أمام ما كانوا يخشونه..
مواقع التواصل الاجتماعي تعود إلى الحديث عن همجية عالم بلا ثقافة بلا فكر.. وتقف عند كتاب مهم تناول هذه القضية أيضاً.
وترى أن العالم ليس كما يبدو، ربما تقرأ هذه الكلمات الآن على شاشة جهاز ما، شيء أصبح جزءاً لا يتجزأ من حياتك اليومية، شيء لم تعد تفكر فيه كثيراً، لكن ماذا لو قلت لك إن هذه التكنولوجيا نفسها، التي احتضنّاها بكل شغف، تمحو شيئاً أساسياً في داخلنا؟
“الهمجية: زمن علم بلا ثقافة” لميشيل هنري يكشف هذا الواقع المقلق، ويعرض لنا كيف أن الحياة الحديثة تسرق منا إنسانيتنا تدريجياً، وتحولنا إلى ظلال باهتة لأنفسنا الحقيقية.
وميشيل هنري، الفيلسوف الفرنسي المعروف بتأملاته العميقة في الوجود والحياة، يتخذ في هذا الكتاب موقفاً جريئاً ضد الهيمنة المتزايدة للثقافة التكنولوجية، لا يقتصر نقده على الآلات أو الأدوات، بل يوجه تحذيره إلى شيء أكبر بكثير: فقدان جوهرنا الإنساني وسط عالم أصبح ميكانيكياً بشكل مخيف، التكنولوجيا، كما يقول هنري، لم تعد مجرد وسيلة بل أصبحت العدسة التي نرى من خلالها كل شيء، لم نعد نتفاعل مع العالم من خلال مشاعرنا أو إحساسنا بالحياة، بل من خلال أنظمة باردة لا تهتم بتجربتنا الإنسانية.
ما يجعل كتاب الهمجية مؤثراً هو وصف هنري الصريح للطريقة التي سمحنا بها لهذا التغيير أن يحدث، استبدلنا العمق بالسرعة والكفاءة، أصبحت الثقافة سطحية، مركزة على الإنتاج والنتائج المادية بدلاً من المعنى، التعليم، الذي كان يوماً ما يسعى لتغذية الروح والعقل، تحول إلى تدريب وظيفي يُعد الأفراد لكي يكونوا أدوات داخل آلة المجتمع الصناعي، الهمجية التي يتحدث عنها هنري ليست عنفاً تقليدياً، بل هي تآكل بطيء لحياتنا الداخلية، نحن نصبح همجاً، ليس لأننا ندمر الآخرين، بل لأننا ندمر أنفسنا من الداخل.
استهلاك الفن
يتحدث هنري عن استهلاكنا للفن، والأدب، وحتى العلاقات الإنسانية، هذه الأشياء كانت مقدسة يوماً ما، مرتبطة بعمق بأرواحنا وتجاربنا الوجودية، لكنها الآن أصبحت سلعاً، مُعبأة ومقدمة لنا عبر شاشات وخوارزميات، تفقد تأثيرها في تحريك مشاعرنا، نحن نمرر، نستهلك، ولكننا نادراً ما نشعر، هذه هي الهمجية الحقيقية، نحن نفقد القدرة على الاتصال الإنساني، ولا ندرك حتى أننا نفقده.
ثم يفجر هنري مفاجأة في منتصف رحلته الفلسفية: الخطر الأكبر ليس فقط أن نصبح عاطفياً مخدرين، بل أن نفقد فهمنا لمعنى الحياة نفسها، الحياة، بالنسبة لهنري، ليست مجرد البقاء البيولوجي أو السعي الفكري؛ إنها التجربة الحية الصافية، لكن في مجتمع مهووس بالسرعة والإنتاج، نحن نفقد الاتصال بتلك التجربة، نصبح مراقبين لحياتنا بدلاً من أن نعيشها بعمق وحيوية.
وهذا الكتاب كما تتناوله الدراسات ليس مجرد نص فلسفي آخر، فأنت تفتقد النقطة، هنري لا يتحدث عن نظريات مجردة، إنه يتحدث عنا، هنا والآن، الطريقة التي نعيش بها اليوم، القرارات التي نتخذها دون تفكير، تشكل عالماً تُسحق فيه الإنسانية شيئاً فشيئاً، الأنظمة التي صنعناها لتسهيل حياتنا بدأت تخنقنا، والأسوأ من ذلك؟ نحن نسمح بذلك، ليس عن سوء نية، بل عن جهل.
مع وصولك لنهاية الهمجية، ستشعر بحقيقة لا يمكن تجاهلها: نحن مشاركون في هذا الانحدار، هنري لا يقدم حلولاً سهلة، ولا يعطيك قائمة بالإجراءات التي يجب اتباعها، لكنه يتركك مع وعي عميق وغير مريح، إذا لم ندرك المسار الذي نسير عليه، فقد لا نستعيد أبداً ما فقدناه، ولكن هناك أيضاً أمل، وإن كان خفياً، مجرد أننا لا نزال نشعر بهذا الفقدان يعني أن كل شيء لم يضِع بعد.
الآن السؤال المطروح: هل سنستمر في هذا الطريق نحو الهمجية، أم سنجد طريق العودة إلى أنفسنا؟
وفي قراءة إسكندر حبش لفكر هنري يرى أن ثمة أمرين لا بدّ أن “نكتشفهما” (إذا جاز القول) مع هذه الترجمة العربية التي صدرت (عام 2022) عن “دار الساقي” (ترجمة جلال بدلة، وهي تعتمد على طبعة 2014 الفرنسية، الصادرة عن منشورات PUF)؛ الأول، مناخ الكتاب، إذ هو مكتوب بهمّ أن يكون متاحاً أمام الجمهور الواسع، بمعنى أنه لا يتمتع بالطابع الأكاديمي والتقني الدقيق مثلما وجدنا في أعمال المؤلف السابقة، لكن، ومع ذلك، يطبق ميشيل هنري مبادئ فلسفته العامة على حالة الأزمة الثقافية الحالية، الملموسة، ويلقي ضوءً قيّماً على هذه الفلسفة، علاوة على ذلك، فهو يتعامل مع الأسئلة الحاسمة لفهم مجتمعاتنا المعاصرة.
على هذا النحو، فإن الكاتب، يتوجه في الوقت عينه، ويخاطب كلاً من الأكاديميين والقرّاء العاديين (بمعنى غير المتخصصين)، ثانياً، نكتشف، لسوء الحظ ربما، أنه كتاب موضوعي، وبقسوة شديدة؛ بمعنى أنه يشهد على “هذا الشعور المأساوي بالعجز الذي يختبره كلّ رجل متعلم اليوم في مواجهة الحقائق”، قد يكون من المهم فعلاً، ومن أجل التفكير في عصرنا الراهن، أن نعود إلى تأملات هذا الفيلسوف الذي يحلل ويفكر في أسباب بربرية (همجية) عالمنا، ففي حين تزداد المعرفة العلمية بشكل مضطرد كل يوم، فإن الثقافة، هي مَن تختفي أكثر فأكثر: في هذا، وفقاً للكاتب، نرى أن هذه الهمجية تغزو مجتمعاتنا المعاصرة، في أصل هذه العملية، “عبقريان”: غاليليه (أو غاليليو بلفظ آخر).
نعم لقد تخلى العالم عن روحه وقيمه لأنه تخلى عن الجماليات والإبداع، لأنه تخلى عن الثقافة.
وما نراه الآن على أرض الواقع من عدوان صهيوني في إبادات جماعية، ما كان ليستمر لو أن العالم يمتلك ضميراً إنسانياً متنوراً، أو كان لديه ثقافة الحياة والتفاعل بدلاً من الاستبداد والقهر والقتل، لقد غاب العقل وأصبح خادماً للموت المجاني.