الثورة _ رفاه الدروبي:
أحبَّ الجولان فذاب فيه حلاوة وعذوبة، وفاضت نصوصه الشعرية بكلمات تصف جمال المكان وسحره، خبرناه عندما رافقناه إلى بلدة حضر راح يعرِّفنا بتفاصيل الأمكنة الساحرة. بشوارعها، بأزقتها، بدروبها، وانبرى يصف شمس الأصيل، والليل الحالم، والصبح الندي. إنَّه الأديب جابر أبو حسين كان لنا معه لقاء تفيض فيه أحاسيس الوطن وعشقه.
الطبيعة عشقي
بدأ حديثه معنا أنَّ أمَّه كانت تقول: «في يوم صيفي استيقظت في وقت مبكر كان الندى يفيض على التلال، ويلعب لعبة الماء مع الشجر والورد والسنابل. ذهبنا إلى حقول القمح نلمُّ سنابلها ونجمعها في البيادر. كان يوماً حافلاً متعباً عدت إلى البيت مساء وانتظرتك حتى أتيت».
إنَّه لا يعرف إن كان جاء مع الندى والسنابل والخير؛ أم مع المتاعب والآلام؛ أم أن كليهما دخلا في صبغيَّاته وتركيبته الأولى، لكن أزعم أنَّ الخلطة ومنذ البداية لا بدَّ أن تصنع شاعراً ولد في سبعينات القرن الماضي في قرية حضر إحدى قرى جبل الشيخ في مرتفعات الجولان السورية، جدَّ في دراسته حتى حصل على إجازة في هندسة البترول من جامعة البعث؛ وأخرى في الأدب العربي من جامعة دمشق.
يعود الكاتب أبو حسين بكلامه إلى أنسنة المكان فيقول: إنَّه يرى الأشجار صبايا والأزهارأطفالاً والأرض أمّاً ،ومازال في حالة حوار دائم مع الطبيعة وعشق لا تنتهي مع الجولان العظيم، فالقصيدة الجميلة الحقيقية لا بدَّ أن تترك أثرها في المتلقِّي كونه صفحة ارتطام الضوء بالنفس القابلة للاشتعال مايهمُّه كثيراً وصول قصيدته إلى المتلقي دون أن تنزلق إلى مستوى السهولة المجانيَّة والإسفاف، بحيث تمتلك قدرة النفاذ إلى قلب متلقِّيها بكلِّ شفافية وعذوبة وحبّ دون أن يشيح نظره عن فتنة وجهها الجاذب الساحر الجميل.
وعن الأمل والتفاؤل في كتاباته المتَّشحة بالحزن، قال: نظمت يوماً في إحدى قصائدي: الحزن جمال، وفي أخرى: سأبعث في وابل الضوء حياً، فكلما اشتدَّ سواد السحاب كان أقرب للغيث، وكلما ادلهمَّ الليل يقترب من الفجر أكثر، لذلك تصنع القصيدة الأمل بمداد الدمع، ونار اللهفة العميقة الصادقة.
الهندسة عائلته وهويته
اعتبر أنَّ الهندسة البترولية بيت العائلة هويته الرسمية؛ أمَّا الشعر بيته المبني على حافة الزلازل؛ لكن يُحيطه بالعطر ويملأ شرفاته بالورود، ورفوفه بالكتب النادرة واللوحات. يلتقي فيه طيشه وشطحاته وعشيقته، لكن في لحظات التأمل يرى الكثير من التشابه بينهما لأنَّ القصيدة أيضاً تحتاج إلى هندسة. لا يمكن لنصٍّ غير مبنيٍّ بشكل متقن أن يعيش طويلاً، وكذلك مثلما يحفر مهندس البترول في أعماق الأرض، ويُعدُّ تصميمه الهندسي في المجهول يحفر الشاعر في أعماق قصيدته، ويقتحم عوالم جديدة في الفكرة والمعنى واللغة، مستنداً إلى ثقافة استمدّها من أهمِّ كتاب إنَّه كتاب الحياة المُتجدِّد وصفحاته لا تُحدَّد، يتعلَّم من ضحكة طفل، وبريق عيني عاشقة، وحلم شيخ طاعن بالتجارب والمعرفة، ولا يملُّ من الإطلالة على ما قرأ منذ هوميروس إلى آخر نصٍّ لأيِّ اسم جديد يستوقفه بدهشته، وفتنته وسط غبار الكتب الجديدة، ودخان العالم الافتراضي الكثيف بحالة وجدانية تبعث على الفرح والانعتاق من سجن المادة، وثمة حزن نبيل جميل يُشذِّب النفس ويرقى بها، ويطلقها على أجنحة القصيدة إلى نوافذ أمل جديدة. لم يتصفَّح معجم البديع فحسب بل عاشه عندما كان طفلاً ورأى عربدة طائرات العدو فوق سماء قريته، وأهله كيف يخطون أبجدية المقاومة، ويرفعون راية الوطن ويدوسون بنعالهم أسلاك البغي الشائكة، ويُسطِّرون صفحات تدرّس في الوطنية والرجولة والبطولة، لذلك وجد حالة تماهي الكثير مما كتب مع مفردات المعجم الموشوم بياقوت النجيع.
طوفان الأقصى
كما لفت إلى أنَّ معركة «طوفان الأقصى» أعادت بثَّ الروح في الجسد العربي بعد أن كاد يسقط في هاوية اليأس، ورغم إدراكه للهاوية السحيقة وابتعاده عنها رأى الطوفان يزيح آلامنا وانكساراتنا ويعلو بخطابنا وقصائدنا وهمَّتنا، نظم شعراً للطوفان، ولأطفال غزة ولمجدل شمس، ومازال موقنا بالصباح وبقدرة الطوفان على بلوغ قمة جبل المعاني حيث ترتفع راية الانتصار الكامل فكان حواره الداخلي في قصائده مُسخَّراً ضمن نصوصه بما يخدم الفكرة والتصعيد الدرامي للنص، مستخدماً الضمائر كلها ففي نص «تجليات يوسف الأخيرة» مثلاً نجد معظم الضمائر، بينما كانت دمشق منه الروح والدم.. المدن حبيباته، لكنَّ دمشق عشيقته الأولى وأجملهن وأعمقهن وأكثرهن التصاقاً بروحه فأنشد:
ترنو إلى عري القناديل الخفية،
تستحمُ بدفء ضحكتها الخجولة،
ثم تولدُ في دمشق..
دمشق تخرجُ من بساتيني وأعشقها
دمشق تضيءُ تدخل في شراييني لأحياها
وأنت تحبني.. تراهُ مُغيراً خلفَ موتٍ مُحتَّمٍ
فيهربُ منهُ الموتُ وهوَ يهاجِمُ
فكم من عدوٍّ ماتَ في جحرِ خوفِهِ
و كم من شهيدٍ عاشَ وهوَ يقاومُ
