الملحق الثقافي- نبيل فوزات نوفل:
في زمن تتسابق قوى الاستعمار بقيادة الإمبريالية والصهيونية العالمية لمحاولة تدمير حضارات الشعوب واستباحة ثرواتها ووجودها وتدمير قيمها الأخلاقية وتقسيمها ليسهل السيطرة عليها ، وتدمير هوياتها الوطنية، يبرز دور الثقافة كسلاح مهم في مواجهة تحديات قوى التوحش العالمية المتمثلة بالعولمة المتوحشة. ويمكننا أن نقدم رؤية للثقافة فنقول:
الثقافة ليست عقلاً مجرداً أو مجرد معرفة علمية فائقة، بل هي طريقة في الحياة والوجود، إنها منهج للعيش، والنظر، والتفاعل مع الوسط الذي يعيش فيه الإنسان جماعة كان أو مجتمعاً، أي هي ما أبدعه الإنسان عقلياً وفكرياً وذهنياً في مجال تفاعله مع الكون، إنها مجموعة من الغايات الكبرى التي يمكن للإنسان تحقيقها بصورة حرة، وتلقائية انطلاقاً من طبيعته العقلانية وبذلك هي أعلى ما يمكن للطبيعة الإنسانية أن ترقى إليه، فهي أساس تطور المجتمعات الإنسانية، وعلى قوتها وصحتها، يكون حاضر ومستقبل الأمم، وبقدر وعي الناس يكون حاضرهم ومستقبلهم، وأن الثقافة هي أساس الشعب، بل هي أساس وطنية الشعب، والركن الركين لاستقلاله، وهي منشأ السعادة أو التعاسة لأي شعب من الشعوب، إنها الطريق إلى الحصول على الاستقلال التام ، أي هي حرية إنسانية، وعقلنة، وترتبط جوهرياً بتقدم الجانب العقلي والوجداني في مجال تكيف الإنسان وسيطرته على الكون، وعلى هذا النحو تكون الثقافة جهداً إنسانياً لعقلنة الكون وأنسنته، والأنسنة تعني هنا قدرة الإنسان على استحضار جانبه الإنساني من عقل ،وعاطفة، ووجدان، وحس، في مسار تفاعله وتكيفه في الوجود. ووفقاً لهذا التصور فإن تطور الثقافة ارتبط بتقديم العقلي والوجداني على المادي والحسي في الإنسان. فالإنسان بعد أن عقلن الطبيعة عقلن ذاته أيضاً، وحاول أن يرتقي بها دائماً من صورتها الحيوانية الصرف إلى صورة إنسانية عاقلة. وهذا يعني أن تقدم الثقافة كان رمزاً لعملية انتقال الإنسان من عالم الضرورة إلى عالم الحرية، فالإنسان ميال بطبيعته إلى الحرية، بحيث أنه عندما يفقدها يكون مستعداً لأن يضحي بكل شيء من أجلها.
وكما نعلم فإن الثقافة، شطران: معرفة وسلوك، وبينهما وشائج جدل لا تتوقف؛ فكل منهما يتعانق مع الآخر، يهذبه، وينميه لغاية محددة مرجوة، هي سعادة الإنسان باكتشاف الجديد وبالتلذذ به، وسعادة الإنسان بأخيه في السكن والعمل والسفر وفي كل مكان، ولأن السلوك هو الشكل المادي الملموس والمحسوس والمؤثر على نحو مباشر في الثقافة . فالثقافات تتسم بالعموم، وتتعلق بكل الإنجازات الإنسانية المكتسبة والمنقولة، والموروثة، وتتوزع إلى أنماط ومدارس، وعصور، ونظريات معرفية على كل الصعد، وتتحول وتتغير تبعاً للواقع وحالة المجتمع وعقائده وعاداته ومذاهبه وأنساقها الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية وغير ذلك، ولفظة الثقافة وما اشتق منها من صيغ فعلية واسمية لم تكن دالة عربياً على غير المهارة في العلوم التطبيقية وفي الصنائع التي تلبي حاجات الناس على نحو حيادي غالباً .
ومما تقدم نستنتج أن الثقافة ليست أمراً خاصاً بطبقة معنية من الناس أو مجموعة مختارة منهم ، وأنها لا تعني فقط تلك المظاهر من السلوك الإنساني التي تشير إلى التذوق والتهذيب والاهتمام بنوع ما من الفنون ، بل هي مفهوم يعني أسلوب الحياة لمجتمع ما، ذو بعد زمني ينتقل من جيل إلى جيل ،ويتعرض للتغيير المستمر بدرجات متفاوتة من مجتمع إلى آخر ومن عصر إلى آخر، وهي بهذا المفهوم تشمل كل القيم والنظم المادية والاجتماعية لأي جماعة من الناس، فتشمل قيمهم ونظمهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والفكرية كما تشمل عاداتهم، أي إن الثقافة هي أداة رئيسة لرقي المجتمعات، فهي لؤلؤة الإرث العظيم لمنظومة المعرفة العربية الخلاقة؛ وقيم الفضيلة التاريخية الحضارية المطرزة بعقد من البطولات والأمجاد؛ والمنسوجة بآداب من الفن البهي الذي كحل عين الزمن إلى أبد الدهر، ومن هنا يبدو مهماً دور المثقفين في صناعة الثقافة المقاومة، فكما النحلة تتنقل من زهرة لأخرى، لتصنع لنا من رحيق الأزهار عسلاً شهياً فيه شفاء للإنسان من الكثير من الأمراض، كذلك هو دور المثقف الباحث المفكر، فهو ينقب عن رؤى من سبقه من المثقفين ،ويقلبها ويناقشها، ويحللها، ليحصل في النهاية على رؤى جديدة تتناسب مع روح العصر الذي يعيشه ومتطلباته، لينتقل بالمجتمع من حالات التخلف إلى التقدم، ومن العتمة إلى النور. ومن هنا كان لها الأولوية في صيانة وتحصين الهوية الوطنية وتعزيز الانتماء الوطني، الذي يعد الأساس لأمن الوطن وقوته، ويمكننا أن نوجز دور الثقافة في تعزيز الهوية الوطنية بالآتي:
1-تسهم في تنمية الوعي في المجتمع، فبقدر وعي الناس يكون حاضرهم ومستقبلهم، فهي تقوم بدور أساسي ومبدئي في الحفاظ على الاستقلال السياسي وبقائه، وكذلك الحصول على الاستقلال التام.
2- تقاوم التبعية للأجنبي، فكما نعلم الثقافة إحدى الأدوات الرئيسة التي تستخدمها القوى الإمبريالية والاستعمارية للهيمنة على الشعوب، من خلال العبث في ثقافتها، ومحاولة تشويهها وتدميرها، فأخطر أنواع الهيمنة التي يمارسها الغرب على الدول الإسلامية والعربية جميعها هو الهيمنة الثقافية، و أن أخطر أنواع تبعية الشعوب المستضعفة للقوى الإمبريالية يتمثل في التبعية الفكرية والثقافية، ومنها تنشأ بقية أنواع التبعية، ومن ثم الثقافة الحقيقية تمنع وتحد من التبعية للآخرين فهي تعزز الهوية الوطنية.
3-لها دور أساسي في تربية جيل جديد على قيم ومفاهيم تحافظ على إنسانية الإنسان وكرامته، وحريته، واستقلاله، وانتماء الإنسان لحضارته ووطنه، وهي بذلك تعزز الهوية الوطنية.
4-تعتبر الثقافة أداة للتماسك بين أفراد المجتمع وتعزيز النسيج الاجتماعي وتماسكه فتعزز الهوية الوطنية.
5- الثقافة تؤدي إلى وجود الاختراع والإبداع في المجتمع، وبالتالي تساهم في التنمية المستدامة في المجتمع فتساعد على الاستقرار في المجتمع وبقاء الشباب في وطنهم والمساهمة في بنائه وتطوره.
6-للأدب دور أساسي في تكوين ثقافة الأمم والشعوب، وله دور كبير في صنع الرسالة الحضارية للمجتمعات البشرية، وفي تقدمها وتحررها، ومن يقرأ مثلاً» الحرب والسلام» للكاتب الروسي» تولستوي»، تتكشف لـه صور رسالة الأدب الحقيقية، حافلة بحقائق حياة الشعب الروسي الوطنية والإنسانية والحضارية، ورغم قيادة «تولستوي» أدب المقاومة الروسية الوطنية -الإنسانية في ما بين أفول القرن التاسع عشر وفجر القرن العشرين، فأدب قومة الإنسان الروسي لحريته وخلاصه ووطنه بقي منغرساً عميقاً في قلب الشعب الروسي.
7- للثقافة دور كبير في حل الأزمات ليس فقط على الصعيد المحلي، بل على الصعيد الدولي، لأن الثقافة تعد من أهم الروابط التي تجمع البشر خصوصاً في ظل الظروف الصعبة التي تعيشها الإنسانية. وكما تؤكد الوقائع أن الأزمات والكوارث تؤثر سلبياً على الثقافة كما فعل فايروس «كورونا»، والحروب التي شهدتها المجتمعات البشرية، وآخرها الحرب العدوانية على سورية، حيث تم تدمير الكثير من مواقع التراث العالمي، ومنع زيارتها ، وارتفاع أسعار الكتاب، وتعثر النشر والتوزيع، وغير ذلك. وكما نعلم إن جائحة كورونا ليست هي الخطر الأول من نوعه الذي يترك آثاراً سلبية؛ فقد خلَّفت الأزمة العالمية وحالة الركود الاقتصادي عام 2008، آثاراً سلبية للغاية على المؤسسات الثقافية؛ و تواجه المجتمعات البشرية خلال مسيرتها الكثير من الأزمات، وعلى قدر امتلاكها فهم طبيعة هذه الأزمات وفهم خطورتها وتحديد الأولويات والحلول الإسعافية والاستراتيجية ،وامتلاك الوعي من القيادات المسؤولة من جهة، والوعي الشعبي تكون المعالجة ناجحة أو فاشلة، فالمجتمعات الواعية المثقفة التي تحيط بالمشاكل التي تواجهها، وتعلم ماهية التحديات وخطورتها تكون أقدر على مواجهة التحديات والأزمات بعكس المجتمعات الجاهلة التي تعبث بها الشائعات والأمراض والانتماءات تحت الوطنية، وبذلك تعزز الهوية الوطنية .
8- الثقافة قادرة على توحيدنا أكثر من أي وقت مضى، باعتبارها قيمة معبرة عن وجود الإنسان وواحدة من أهم معاني حياتنا، ولها دور كبير في تنمية الوعي والانتماء، الذي يحصن الأمة ويقويها، ويفتح لنا أبواباً جديدة تتيح الدخول إلى فضاءات واسعة ،فالوعي بمثابة المنارة التي تدلنا على المسار المناسب لتفادي الاصطدام بالعوائق ومواجهة الظروف الصعبة، وكلما ارتفعت درجة الوعي اتسعت مساحة الدائرة المضاءة، وبالتالي اتسعت مساحة الاستيعاب والإدراك العميق للظروف والأخطار، وامتلاك الثقافة العالية يؤدي دوراً مهماً في توسيع دائرة الوعي كونها توسع المنطقة المضاءة في فكرنا، وتزيد من قدراتنا على فهم الأمور والتخلص من غياب الوعي لحقيقة وجود الإنسان ودوره والتخلص من العقل الغريزي، ويتم ذلك من خلال المناهج التربوية والتعليمية في المراحل المختلفة والمؤسسات المعنية بالثقافة التي هي روافع الوعي الحقيقي وتعزيز الهوية الوطنية .
9- للثقافة دور كبير في من خلال تجسيد الفكر النقدي الذي يتصف بالعقلانية العلمية، القادر على الخلق، وعلى التحليل والتركيب، والواقعية المبدئية لذلك تساهم الثقافة في فهم هويتنا ووعيها، ومكانة أمتنا في التاريخ والمستقبل، ومدى تنمية هذه الهوية وعلاقتها بوعينا، ما يحصن الأمة من رياح التوحش التي تشن على الأمة العربية.
10 -الثقافة هي محورعملية التنمية الاجتماعية، فهي علم قائم بذاته تساهم فيه فروع علمية مختلفة وعلى رأسها علم الإناسة (الأنثروبولوجيا)، وعلم اجتماع المعرفة، وكان ابن خلدون في مقدمته أول من نبه إلى المعنى العام لمفهوم اجتماعية المعرفة ،وذلك عندما أكد على «علاقة الارتباط بين الثقافة والعمل وأن المعرفة تتطبع بطبيعة المناخ الاجتماعي التي تنطلق منه، ومن ثم تعزز الهوية الوطنية من خلال مساهمتها في ترسيخ الاستقرار والنمو الاقتصادي والتنمية المستدامة .
11-الثقافة وفق تعبير إدوارد سعيد تستطيع بفضل موقعها الرفيع أو السامي أن تجيز وتهيمن وتحلل وتحرم، وأن تخفض منزلة شيء ما أو أن ترفع من مقامه.
12-الثقافة تساعد الناس على تلبية متطلباتهم؛ وتخلق عوامل الانسجام في طرائقهم ونشاطاتهم وتربطهم بعصرهم وتقدم لهم مناهج الاتصال بالماضي والمستقبل، وتمكنهم من فهم التصور الحضاري لتطور الأمم، وبذلك تعزز من الهوية الوطنية، هذه هي بعض أهم ما تقدمه الثقافة من دور في تعزيز هويتنا الوطنية وتحصينها، وبالتالي فالثقافة التي نريد هي الثقافة التي تعزز روح المقاومة والوحدة الوطنية واحترام الرموز الوطنية، من العلم والجيش والعملة الوطنية والتراث، والتاريخ، وتحصين اللغة العربية، ومقاومة الظلم والاستبداد والاستعمار بأشكاله كافة، وتعمل على بناء مجتمع المواطنة الحقيقية.
العدد 1214 – 19 – 11 -2024