الثورة – معد عيسى:
تشابه الظروف المناخية التي تمر على سوريا هذا العام تلك التي مرت على البلد في ثمانينيات القرن الماضي مع فارق في التوصيف، ففي الثمانينيات تم توصيف ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض الهطولات المطرية واحتباس الأمطار بالدورة المناخية التي تمر على المنطقة كل ٣٣ سنة، أما اليوم فبات الأمر واضحاً بأن ما تشهده سوريا من تطرف مناخي (احتباس الأمطار وتباعد فترات الهطول وارتفاع درجات الحرارة وحدوث الكوارث مثل الحرائق والفيضانات والجفاف)، هو تغير مناخي واضح يجب التعامل معه في السياسات الاقتصادية والخطط الزراعية والبيئة للتقليل ما أمكن من آثاره الكارثية على الاقتصاد ومعيشة الناس.
انخفاض الإنتاج
في السنوات الأخيرة انخفضت نسبة الزيت المستخرج من الزيتون بسبب الجفاف وارتفاع درجات الحرارة وتراجعت “القطعية” كما يسميها المزارعون، وانخفض إنتاج العسل أيضاً بسبب ارتفاع درجات الحرارة الذي أدى لنفوق خلايا النحل، وكذلك لقلة الغطاء النباتي الذي يوفر المراعي للنحل، وهذا بات تهديداً حقيقياً لشريحة واسعة من المربين والمزارعين.
زراعات بديلة
المزارعون تحسسوا التغيير المناخي وبدؤوا البحث عن زراعات بديلة تتأقلم مع الجفاف، وتحتاج إلى رعاية وخدمة أقل، وكان واضحاً انتشار الزراعات الاستوائية في الساحل السوري، وكذلك زيادة الاعتماد على زراعة اللوز والتين والكرمة في المناطق الداخلية والتوجه للبحث عن بدائل داعمة على شكل مشاريع صغيرة، مثل زراعة الفطر والنباتات الطبية والعطرية وغير ذلك من المشاريع الداعمة.
زيادة تكرار
“التنين البحري”الدكتور أحمد نعمان- مركز الدراسات البيئية في وزارة الإدارة المحلية، قال في حديث لـ”الثورة”: التغير المناخي في سوريا واقع، وإن موقع سوريا وإطلالها على البحر المتوسط يجعلها عرضةً لتأثيرات جوية متعددة، وتعد سوريا من البلدان المتأثرة بالتغير المناخي بشكل كبير جداً، وظهر ذلك جلياً على زيادة تكرار الموجات الحارة وطول مدة تأثيرها وارتفاع الرطوبة السطحية المرافقة لها وزيادة تشكل عواصف غبارية، بالإضافة إلى خلل في التوزع المكاني والزماني للهطولات، وما ينتج عنه من حالات جفاف وفيضانات مطرية، وتعد زيادة تكرار “الشواهق” المائية (التنين البحري) حدثاً مستجداً على الساحل السوري في السنوات الأخيرة، وتعزى هذه التأثيرات إلى الاحتباس الحراري وارتفاع درجة حرارة البحار القريبة (شرق البحر المتوسط، شمال البحر الأحمر، الخليج العربي)، كما أن للنشاط البشري وإزالة الغطاء النباتي وحرائق الغابات دوراً كبيراً في زيادة التصحر وزيادة تكرارية كل من العواصف الغبارية والفيضانات.
وتابع د. نعمان: يرتبط حدوث معظم السيول والفيضانات في سوريا بغزارة الهطولات الرعدية خلال فصلي الربيع والخريف، وفي حالات استثنائية تمتد الفيضانات الناتجة عن العواصف المطرية على مساحاتٍ واسعة تشمل معظم الأراضي السورية، ويتكرر هذا النوع من الاضطرابات الجوية الاستثنائية في سوريا خلال شهر أيار بتواتر مرة كل 15 إلى 20عاماً، إلا أنها تكررت مرتين خلال 11 عاماً في عام 2007 وفي عام 2018 بتواتر أعلى من المعتاد، ومن الملاحظ أن السيول والفيضانات المطرية في سوريا أصبحت خلال السنوات الخمس الأخيرة (2017-2021) سمةً من سمات الفصول الانتقالية، مع إمكانية حدوثها بتكرارية أقل ومساحات أصغر خلال بقية أشهر السنة، ويرتبط هذا النوع من الأحداث الحملية الشديدة بارتفاع درجة حرارة سطح البحر، ويشهد الساحل السوري حدوث الشواهق المائية بشكل محدود، إلا أن تكراريتها خلال الموسم 2020-2021 كانت كبيرة، ويعزى ذلك بشكل رئيسي إلى ارتفاع درجة حرارة سطح البحر (في شرق البحر المتوسط) بشكل قياسي نتيجة الموجات الحارة المتعاقبة التي أثرت على المنطقة خلال خريف 2020، حيث وصل انحراف درجة حرارة سطح البحر المتوسط لأكثر من 2 درجة مئوية فوق المعدل.
تباين في درجات الحرارة والهطول
وأشار د. نعمان إلى تجاوز درجة الحرارة معدلاتها في سوريا بحدود (5 – 7) درجات مئوية لمدة أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع على فترات خلال فصل الصيف، وخاصةً خلال شهري تموز وآب، ولوحظ ارتفاع قياسي لموجات الحر صيفاً فازداد عدد الأيام التي تجاوزت فيها درجات الحرارة 40 درجة مئوية، مع زيادة في عدد موجات الحر في السنوات العشر الأخيرة، كما يمكن في بعض الأحيان أن تشهد المنطقة امتداداً لكتل حارة خلال الفصول الانتقالية؛ ففي فصل الخريف، تعرضت سوريا خلال السنوات السبع الأخيرة لموجات حارة خلال شهر أيلول تجاوزت فيها درجات الحرارة 40 درجة مئوية وهي حالات لم تسجل في الأعوام التي سبقتها، وسجل عام 2020 في شهر أيلول موجة حر غير مسبوقة تجاوزت فيها درجات الحرارة الـ 40 درجة مئوية واستمرت لعشرة أيام.
وتميزت فترات الربيع في سوريا خلال السنوات الأخيرة بالتباين الكبير في درجات الحرارة والهطول، وظهر ذلك جلياً في ربيع 2021 حيث كان النصف الأول من الربيع بارداً ورطباً، في حين أن النصف الثاني كان عبارة عن سلسلة من موجات حارة قصيرة متعاقبة.
أظهرت دراسة تتبع الجفاف في سوريا المنتجة في بداية العام 2022 للفترة 2000-2021 باستخدام الصور الفضائية التي أجريت ضمن المرصد البيئي الوطني في وزارة الإدارة المحلية والبيئة لكل من مؤشر الأمطار القياسي SPI، ومؤشر حالة الغطاء النباتي VCI، ومؤشر درجة الحرارة القياسي TCI، تعرض أكثر من 40% من مناطق القطر في تلك الفترة لموجات جفاف طغت عليها سمة الجفاف القاسي والشديد جداً، علماً أن أكثر من نصف منطقة الدراسة في غالبية الفترة ولمدة 16 عاماً لم تشهد ارتفاعات ملحوظة بدرجات الحرارة كما يظهره تطور المؤشر TCI، هذه الظروف دفعت باتجاه حالة غير صحية للنباتات في تلك الفترة في أكثر مناطق القطر وفقاً لمؤشر حالة الغطاء النباتيVCI.
تدهور كبير
ووفقاً لخريطة المناطق ذات النزعة الجافة بين عامي 2000 و2021 وفق المؤشر VCI (المرصد البيئي الوطني- وزارة الإدارة المحلية والبيئة)، أوضح د. نعمان تعرض سوريا لظواهر غبارية ورملية مختلفة الأسباب والمنشأ (غبار محلي أو محمول) في فصل الصيف يحمل امتداد المنخفض الموسمي الهندي إلى المناطق الشرقية والبادية ومنطقة الجزيرة بعض الرمال من منطقة الخليج العربي والعراق، إضافةً إلى إثارة الغبار المحلي نتيجة الجفاف الكبير وتفكك التربة في المنطقة الشرقية والبادية، كما يمكن للطمي الموجود على ضفاف الأنهار في منطقة الجزيرة أن يكون مصدراً محلياً للغبار، وفي فصل الربيع يعد المنخفض الخماسيني من أهم أسباب الظواهر الغبارية في المنطقة وهو يتشكل في الصحراء الكبرى، وتعد صحراء سيناء أحد مصادر الظواهر الغبارية في المنطقة الجنوبية من سورية، كما يمكن أن تترافق الجبهات الجوية بظواهر غبارية محلية أو محمولة نتيجة نشاط الرياح السطحية.
إن عوامل الجفاف والتصحر والتواتر المتزايد للموجات الحارة، بالإضافة إلى الزراعة والرعي والنشاط الصناعي والعسكري تزيد من الظواهر الغبارية، وكذلك تواتر الفيضانات النهرية مع إزالة الغطاء النباتي المحيط يجعل من الطمي مصدراً محتملاً لهذا النوع من الأحداث، وتعرضت سورية خلال شهر أيلول 2015 لعاصفة غبارية ذات منشأ محلي غطت كل أراضي سوريا وبعض أرضي دول الجوار، وتدل المؤشرات الحالية على تدهور كبير يحصل في المناطق الجافة وشبه الجافة نتيجة تتالي مواسم الجفاف في تلك المناطق والموجات الحارة وتراجع الغطاء النباتي، بالإضافة إلى بعض الأنشطة البشرية ومنعكسات الحرب، ما يشير إلى إمكانية تشكل منابع غبارية مستجدة ضمن الأراضي السورية خلال المواسم القادمة، أدى كل ذلك إلى كوارث وأضرار تدميرية مباشرة وآثار لاحقة طالت مناطق مجاورة، منها أضرار بشرية وصحية.
ممارسات ما قبل ٢٠١١ أضرت وسرعت
وعن الأثر البشري في ظاهرة التغير المناخي على سوريا قال د. نعمان: أكيد الضغـوط السـكانية ومـا رافقهـا مـن اسـتخدام غير رشيد للموارد الطبيعية على موارد الأراضي، وازداد التأثير السلبي عليها من خلال تكرير النفط بالطرق البدائية، والاعتداء على الغابات والأشجار علـى نحو جائر كله أثر سلباً بشكل كبير، حيـث وصلـت النسبة المئوية لتدهور الأراضي بناءً على مؤشر تغير الغطاء الأرضي 3.91 %، والنسبة المئوية لتدهور الأراضي بناءً على مؤشر تغير إنتاجية الأراضي يساوي 40 % وعليه بلغت قيمة مؤشر تدهور الأراضي في سورية 43.91 % عام 2015 (المصدر تقرير LDN)، ويعزى ذلك إلى انحبـاس الأمطـار وتراجعهــا إلى مســتويات قياســية، والاسـتهلاك الجائـر للغابـات والأشـجار، وازدياد معـدلات انبعـاث غـاز ثـاني أكسيد الكربـون.
وتعــد عمليــة تدهــور التربــة، التــي تشــمل التصحـر والتملّـح والتلـوث، مـن المشـكلات البيئيـة الخطيرة في سـورية، والتـي نشـأت عـن الأنشطة الجائـرة لاسـتخدام الأراضي والاسـتخدام المفـرط للمـوارد المائيـة، في المناطـق التـي غابت عنها الادارات والضابطات والتشريعات المائية.
أخيراً..ما سبق يؤكد على أننا أصبحنا أمام واقع بيئي جديد علينا أن نرسم الخطط والسياسات وفقه، وأن نسرع في وضع البرامج التنفيذية السريعة لإدارة الموارد المائية، ووقف استنزاف الغابات وتراجع الغطاء النباتي، والبحث عن زراعات مناسبة للظروف الحالية تعوض تراجع الإنتاج.