الثورة – رنا بدري سلوم:
قد ينزف اللون أخبارنا العاجلة من عين الحقيقة، عند الشّاعر تبقى الحقيقة في قلبه، وعند الأديب ما بين السّطور، فأين تكمن الحقيقة عند الفنان التشكيلي؟.
سؤال توجّهنا به إلى الفنان الأستاذ عمّار سفلو الذي جمع بين مدرستين فنيّتيّن “التكعيّبية والتعبيرية”، آخذاً من الأولى دقّة الملاحظة وهدوء خطواته في عمله الفنيّ وكتاباته الأدبيّة في القصّة والمسرح والدراما، ليهندس بنظرةٍ واثقةٍ لوحات تؤكد أن الهندسة أصولاً للأجسام مع انصهارها بالتعبير عن الذات، آخذاً منها استحقاقه الذّاتي في امتلاك أدواته الفنيّة واعتداد لونه وتمرّده حتى في عالم الخط العربيّ الذي يتقنه ويعلّمه للأجيال. فبحسب النقّاد فإن المدرسة التعبيريّة هي أكثر مذهب فنّي متأثر بالذاتيّة المفرطة من خلال تعبير الفنان عن مشاعره وعواطفه وحالاته الذهنيّة التي تثيرها الأشياء أو الأحداث في نفس الفنان، فتدفعه إلى الإبداع، وهو ما لامسناه عند الفنان التشكيلي عمار سفلو الذي يرى نور الحقيقة تشعُّ واضحة المعالم مباشرة الرسائل شفيفة المعاني تسكن، بل تنغمس في خطوط وألوان لوحاته الفنيّة.
وبحديث أقرب إلى حوار الرّوح التقته صحيفة الثورة وحاورته، ودخلت معه سراديب اللون الذي لم يخرج للعلن بلوحاتٍ إلا وأضفت على المكان الهدوء والسكينة المبشّرة بالربيع والخصوبة وديمومة الحياة.
هل يحافظ الفنان على المسافة بينه وبين اللون بعيداً عن- ذاته- في المدرسة الفنيّة التي ينتمي إليها؟ وما هي المدرسة التي تأثرت بها والتصقت بها حد التوحّد؟.
يتوحّد الفنان مع اللوحة من خلال إنجازه لها إلّا أنّه لا بد من تجرّده عنها والعودة إلى الخلف بين حين وآخر كي يراها بعين النّاقد ثم يعود.
بدأت رحلتي الفنيّة بنقل كل ما تسقط عيني عليه إلى لوحتي، إلا أنّني لم أكتفِ بذلك رحت أبحث عن ذاتي وأين أجد نفسي في بحر المدارس الفنيّة وتنوّعها كي يتسنّى لي نقل ليس الواقع كما تراه عيني وحسب، بل الأحاسيس والأفكار التي تنتابني أو أشعر بها من خلال مشهد ما، أحببت “المدرسة التعبيريّة”، وكان معرضي الأول في آب العام 2001، وكانت أعمالي حينذاك تنبض خطوطاً وألواناً تعبيريّة، إلا أنّني لم اكتفِ بذلك رحت أبحث عن هويّتي الخاصة كفنان له بصمته المتفرّدة، فتمعّنتُ في “المدرسة التكعيبيّة” وأتقنتها واستطعت أن أحقّق تلك الهويّة من خلال حالة الدّمج ما بين الفكرة التعبيريّة والخطوط التكعيبيّة لأخرج بهويّتي الخاصّة.
ما الملاحظة الثانية التي كانت أشد إيلاماً من الأولى التي تلقّيّتها ظلماً من أستاذكَ؟ وهل يستحق الموهوب هذا الألم؟.
في الحقيقة الملاحظة الأولى التي تلقيّتها من أستاذي في الابتدائية، التي أشكره عليها لإيقاظ الموهبة التي كانت بداخلي من دون دراية مني. أما عن الملاحظات المؤلمة التي تلقيّتها بعد ذلك، سأكتفي بذكر اثنتين منها، الأولى أو الثانية بترتيب الملاحظات كانت حين تقدّمت لإجراء امتحان القبول في كليّة الفنون الجميلة، والتي لم أستطع دخولها بالرغم من تفوّقي حينها واجتيازي الفحص بامتياز، كان ذلك لأسبابٍ كلّنا يعلمها عن شريحة المتقدّمين للكليّات التي يتطلّب دخولها إجراء مقابلات أو امتحان قبول. أمّا عن الملاحظة الثالثة، فكانت وأنا أدرّس في المعهد بدمشق، وحين تقدّمت بمشروع التخرّج الذي توقّعت أن يكون الأول، لكن ذلك لم يحصل بسبب المدرس حينذاك، وفي تقييمه لأعمال الطلاب طلب مني أن أنحّي العمل جانباً لعدم ارتقائه للعرض بمعرض المعهد- طبعاً لتحيز المدرّس حينها- فخرجت مكسوراً ليس لعلامة آخذها، وإنما لأن عملي يستحق العرض علماً أن معظم أعمال زملائي حينها استحقت العرض بعد مساعدتي لهم في أعمالهم. لم أشعر يوماً بألم أو قهر ما بسبب تلك الملاحظات، بل على العكس الأولى أيقظتني، والثانية والثالثة كانتا لي حافزاً لأستمر وأن أخوض في بحر الفن التشكيلي وأدرسه دراسة أكاديميّة وأخرج بأسلوبي الخاص.
هل لعبت الوحدة دوّراً في تعلّقكَ بالفن منذ الصغر؟ وهل تلقّيت الدّعم من أسرتك؟
لا أعتقد أن الوحدة لها دور في ذلك، فالموهبة تولد مع الإنسان فما عليه إلا أن يصغي لها ويتبع صوته الداخلي، ويعمل على صقل موهبته وتنميتها لتزهر وتثمر، وأذكر جيداً أنني كنت محاطاً بالدعم وخاصة كرسامٍ، رغم أنّي معجب بآلة العود وودت تعلمها وعزفها إلا أنّ والدي- رحمه الله- أصرّ أنّني نجمٌ في عالم الرسم واللون، فآمن بي وقرّر دعمي وإحاطتي بعالم الجمال واكتسابي كل أدواته، فسجّلني بدورات متخصّصة في الرسم لأتعلّم هذا الفن من ألفه إلى يائه.
الفنان ابن بيئته، ولم تغب إدلب عن لوحاتك، أين هي اليوم بعد عودة النّبض لها؟
نعم الفنان ابن بيئته ابن الأرض والمجتمع الذي يعيش فيه، لطالما أحببت بلدي الذي أنتمي إليه، كان لها نصيبٌ كبير ٌمن لوحاتي سابقاً، حين كنتُ أرسم بالأسلوب “الواقعيّ” لكنني حين اتّجهت لأسلوبي الخاص كان هدفي هو الإنسان وليس أي إنسان، بل الإنسان الذي ينتمي إلى مجتمعه، فكان هذا هدفي الأول من خروجي عن الواقعيّة لأسلوبي الجديد الذي جعلني أكثر حريّة الانغماس باللون والتعبير من خلاله عن الألم والفرح والسعادة وعمن يحيطون بي، وأحياناً آمالي وآمال المجتمع الذي أنتمي إليه ككل.
فن النحت هو الفن الوحيد الذي لم تطرق أبوابه، برأيك هل يختار الفنان نوع رسالته أم يخلق الإبداع روحه الخاصة؟ وهل يستطيع الزمن أن يرتب أولويات الفنان إن تنوعت مواهبه؟
لطالما سحرني الفن الإغريقي وأعمال عظماء الفنانين “كمايكل انجلو” طبعاً سحرني ليس كفنان، بل كمتذوّق للجمال، إلا أنّني لم أجد نفسي إلا هائماً في عالم الخطوط والألوان.
باعتبار أنّك جمعت بلوحاتك المدارس الفنيّة، هل استطاع اللون أن يتمرّد ويخلق لنفسه مساحة في الحريّة والانعتاق من القيد واللازم؟
بالطبع اللون يتمرّد حتى عليَّ أحياناً وكم أرى تمرده جميلاً! وقد يتجلّى ذلك حين أغيب أمام لوحتي وأدع الفرشات وروحي مداعبة الألوان.
ماذا ينقص الفن التشكيلي في سوريا؟ وهل هو محميُّ من المتطفّلين؟
للأسف الفن التشكيلي كأيّ تخصص آخر لا يخلو من المتطفّلين ولكن هل نحن كفنانين لنا يد في إظهار أولئك المتطفلين؟أجل لنا يد في ذلك، من خلال تبادلنا المجاملات وغياب الموضوعيّة أحياناً بنقد اللوحات أو ما يعرض أمامنا من أعمال، فأنا عن نفسي، ومن منطلق غيّرتي على حالة فنيّة صحيّة، لا أدع المجاملات تأخذني كي لا يطفو المتطفّلون، طبعاً وللإعلام دور في ذلك.